«فلسفة جمعية العلماء» - الحلقة الثانية - الجزء الأخير | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 18 شوال 1445 هـ الموافق لـ 27 أبريل 2024 م

الكلمة الشهرية رقم: ١٦٣

 

«فلسفة جمعية العلماء»

[الحلقة الثانية]

«تفرُّق أهلِ الكُتُب السماويَّة في الدِّين قبل الإسلام»

[الجزء الأخير]

 

ولعلَّ لِتلك الأُمَمِ الكتابيَّة ما يُشبِهُ العُذرَ في المصير الذي صارت إليه لِضَياعِ كُتُبِها التي هي منبعُ الهدايةِ بين التحريف والتبديل والنسيان والتأويل؛ أمَّا هذه الأُمَّةُ فإنَّ حبل اللهِ المَتينَ فيها ممدودٌ، وبابَ الفقه فيه مفتوحٌ غيرُ مسدودٌ، ووارِدُ مَنهَلِه العذبِ غيرُ مُحَلَّإٍ(١) ولا مطرودٍ؛ ولكِنْ تَناوَلَه أوَّلُهُم بالتأويل، وآخِرُهم بالتعطيل، حتَّى اتَّخَذوه مهجورًا(٢)، وجعلوا تفسيرَه وفهمَه أمرًا محظورًا؛ فحُرِموا ما فيه مِنْ شفاءٍ ورحمةٍ، وعلمٍ وحكمةٍ، وبلاغٍ وبيانٍ، وهديٍ وفرقانٍ، ونورٍ وحياةٍ، وعصمةٍ ونجاةٍ، وباقياتٍ صالحاتٍ؛ فلم يَزالوا لاهِينَ بالانتساب الصُّوريِّ إليه(٣)، حتَّى دلَّتْهم حوادثُ الدَّهرِ عليه، فاستشعروا ـ وهُم بين براثنَ مِنَ السِّباع البشريَّةِ تتخطَّف، وصوالجةٍ(٤) مِنَ الأُمَمِ الغالبة تتلقَّف ـ غَيبةَ هادِيهِ الذي كان يُهيبُ بالأرواح إلى العِزِّ، وفَقْدَ حادِيهِ(٥) الذي كان يسوق النفوسَ إلى الكرامة، واختفاءَ نورِه الذي كان يجلو البصائرَ ويُزيلَ الغُمَمَ(٦)؛ فأَقبَلوا يَتلمَّسونه، وانثالوا(٧) عليه يتحسَّسونه، يرجون منه ما يرجو المُدلِجُ(٨) الحيرانُ مِنِ انبلاجِ(٩) الفجرِ، وراعي السنينِ الغُبْرِ مِنِ انهلالِ القَطْر(١٠)، وقد قوَّى أمَلَنا في رجوعهم إليه وإقبالِهِم عليه ما نراه مِنِ اصطباغِ الحركة الإصلاحيَّة الحديثة بالصبغة القرآنيَّة، فهي سائرةٌ إلى غايته، داعيةٌ إليه، مُرشِدةٌ به، مُستدِلَّةٌ بآياته، به تصول وبه تحارب، وعليه تحامي ودونه تُنافِح، وما الحركةُ الإصلاحيَّةُ في يومنا هذا بضئيلةِ الأثر ولا هي بقليلةِ الأتباع، وإنَّ هذا لَمَوضعُ الرَّجاءِ في رجوع المسلمين إلى القرآن(١١).

* * *

أَيْ شبابَ الإسلام: حَمَلةَ الأمانةِ ومُستودَعَ الآمالِ وبُنَاةَ المُستقبَلِ وطلائعَ العهدِ الجديد.

خُذُوها فصيحةً صريحةً لا تتستَّر بجلبابٍ، ولا تتوارى بحجابٍ.

إنَّ عِلَّتَكم التي أَعْيَتِ الأطِبَّاءَ واستعصَتْ على حِكمةِ الحُكَماءِ هي مِنْ ضعفِ أخلاقكم ووهنِ عزائمكم؛ فدَاوُوا الأخلاقَ بالقرآن تَصلُحْ وتَستقِمْ، وأُسُّوا العزائمَ بالقرآن تَقْوَ وتَشْتَدَّ.

وإنَّ الذي قعَدَ بأُمَّتِكم عن الصالحات وأَعدَّها لها في أُخرَيَاتِ القافلة هو اختلافُ قلوبِها وتشتُّتُ أهوائِها؛ فأَجمِعُوا على القرآن آخِرَها كما جمَعَ محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم أوَّلَها، يُنتِج لكم هذا الآخِرُ ما أَنتجَه ذلك الأوَّلُ مِنْ عزائمَ شِدَادٍ، وألسنةٍ حِدادٍ، وهِمَمٍ كبيرةٍ، وعقولٍ نيِّرةٍ(١٢).

وإنَّ أوَّلَ أُمَّتِكم شبيهٌ بآخِرِها عزوفًا عن الفضائل، وانغماسًا في الرذائل(١٣)؛ فلم يَزَلْ بها هذا القرآنُ حتَّى أَخرجَ مِنْ رُعَاةِ النَّعَم رُعَاةَ الأُمَم، وأَخرجَ مِنْ خُمولِ الأُمِّيَّةِ أَعلامَ العِلمِ والحكمة؛ فإِنْ زعَمَ زاعمٌ أنَّ الزمانَ غيرُ الزمان، فقولوا: ولكنَّ الإنسانَ هو الإنسان.

وإنَّ هذا القرآنَ وَسِعَ الحياةَ الأبديَّةَ فبيَّنها حتَّى فَهِمها الناسُ واعتقدوها وسَعَوْا لها سَعْيَها، فكيف لا يَسَعُ حياتَكم هذه..؟!

أَيْ شبابَ الإسلام، إنَّ الأوطان تجمع الأبدانَ، وإنَّ اللُّغاتِ تجمع الألسنةَ(١٤)، وإنَّما الذي يجمع الأرواحَ ويُؤلِّفُها ويَصِلُ بين نَكِرَاتِ القلوبِ فيعرِّفها هو الدِّينُ، فلا تَلتمِسُوا الوَحدَةَ في الآفاق الضيِّقةِ، ولكِنِ الْتَمِسُوها في الدِّين والْتَمِسوها مِنَ القرآن، تجدوا الأُفُقَ أَوسعَ، والدارَ أَجمعَ، والعديدَ أَكثرَ، والقُوَى أَوفرَ(١٥).

ـ يُتبَع ـ



(١) حَلَّأَهُ عن الماءِ تَحْلِيئًا وتَحْلِئةً: طَرَدَهُ ومَنَعَهُ؛ [«القاموس المحيط» للفيروزآبادي (٤٧)].

(٢) وهذا مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوۡمِي ٱتَّخَذُواْ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ مَهۡجُورٗا ٣٠[الفرقان] فهذه شكوَى الرسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم مِنْ قومه الذين أعرضوا عن القرآنِ وهجَرُوه حُكمًا ودراسةً وتعليمًا وتلاوةً وتبيانًا وغيرها مِنْ أنواع الهجر، وتركوا كُلَّ شيءٍ يتعلَّق به قولًا وعملًا، وقد بيَّن اللهُ تعالى أنَّ الباعثَ على هذا الصنيعِ هو العداوةُ المؤدِّيةُ ـ بطريقٍ أو بآخَرَ ـ إلى الجدلِ المذمومِ والمُهاترة الكلاميَّةِ بالقبيح والباطل مِنَ الألفاظ، وهجرِ الأقوال والأفعال كما يفعله الأعداءُ الذين لا يَصلُحون للخير ولا ينقادون لحُكم الله ولا يقبلون التَّحاكمَ إليه ولا أحكامِه، ولا العملَ به والسَّيرَ خلفه، وهؤلاء الخَلْقُ أعداءٌ لهم سلفٌ صنعوا كصنيعهم مع الرُّسُل مِنْ قبلُ كما قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا مِّنَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ[الفُرقان: ٣١].

قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في [«الفوائد» (٨٢)] ما نصُّه:

«هجرُ القرآنِ أنواعٌ:

ـ أحَدُها: هجرُ سماعِه، والإيمانِ به، والإصغاءِ إليه.

ـ والثاني: هجرُ العملِ به، والوقوفِ عند حلاله وحرامه وإِنْ قَرَأه وآمَنَ به.

ـ والثالث: هجرُ تحكيمِه والتَّحاكمِ إليه في أصول الدِّين وفروعه، واعتقادُ أنه لا يفيد اليقينَ، وأنَّ أدلَّتَه لفظيَّةٌ لا تحصِّل العِلمَ.

ـ والرابع: هجرُ تدبُّرِه وتفهُّمِه، ومعرفةِ ما أراد المتكلِّمُ به منه.

ـ والخامس: هجرُ الاستشفاء والتَّداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاءَ دائِه مِنْ غيره، ويهجر التَّداويَ به. وكُلُّ هذا داخلٌ في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوۡمِي ٱتَّخَذُواْ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ مَهۡجُورٗا ٣٠[الفُرقان]».

(٣) الانتساب إلى الإسلام الصُّوريِّ هو: الاعتزاءُ إلى الصُّورة المزوَّرةِ على الإسلام وعلى أحكامه وشرائعه والانتماء إليها؛ إمَّا كُلِّيًّا أو جزئيًّا؛ حيث يظهر الإسلامُ بشكلٍ غيرِ مُطابِقٍ للحقيقة والواقع، وذلك التزويرُ تَولَّد بسببِ فِرَقٍ مُنحرِفةٍ وطوائفَ ضالَّةٍ تنتسب إلى الإسلام اسْمِيًّا وإِنْ كان كثيرٌ منها لم يخرج منه؛ وتعملُ على إبعاد المسلمين عن تربِيَتِهم على الإسلام المصفَّى بأخذه بجميعِ شرائعه وأحكامِه، وذلك بوسائل التَّضليل والتَّلبيس والهدم مِنَ الداخل؛ والمعلومُ أنَّ الصورةَ المضلَّلةَ والمزوَّرةَ لا تعكس حقيقةَ الإسلام بحالٍ وإِنْ تَسمَّتْ باسْمِه.

ومِنَ الصُّوَر المنسوبةِ إلى الإسلام كَذِبًا وزُورًا: تلك الأسماءُ الحديثةُ ذاتُ الدلالاتِ والمفاهيم والأحكامِ اللَّاصقة بأصحابها، والمُنتشرةُ في مَجالَيِ الاقتصاد والسِّياسة مِثل مذاهبِ: الاشتراكيَّة والرَّأسماليَّة والدِّيمقراطيَّة وغيرِها ممَّا قدَّمها أنصارُها المنتسبون إلى الإسلام المتظاهرون به على أنَّها هي الإسلامُ الحقيقيُّ لِتَروجَ على النَّاس، إذ فسَّروه بها وادَّعَوْا أنها نماذجُ متوافقةٌ مع المنظور الإسلاميِّ؛ وكُلٌّ بحسبه: فعند أنصار المذهب الاشتراكيِّ المنتسبين إلى الإسلام يقدِّمونه على أنه يتضمَّن مبادئَ اشتراكيَّةً، ويحقِّق بين النَّاس العدالةَ الاجتماعيَّةَ بمفهومهم القائم على المُساواة لا المُواساة بين النَّاس، وأنصارُ المذهب الرأسماليِّ المنتسبون إلى الإسلام يقدِّمونه على أنه يعترف بالمِلكيَّة الفرديَّة بمفهومهم ويحميها، ويفتح مجالَ حُرِّيَّةِ العمل والكسبِ والتِّجارةِ واسعًا، ولا يَسُدُّ أبوابَ المنافسة الشَّريفةِ ـ بمفهومهم ـ في تحصيلِ الثَّرواتِ، وأنصارُ المذهب الدِّيمقراطيِّ المنتسبون إلى الإسلام يقدِّمونه على أنه يدعو إلى الإخاء الصحيح بمنظورهم وإلى تحقيق مبادئ الحُرِّيَّة بين النَّاس بقَدْرِ ما يمكن أَنْ يكون الإنسانُ حرًّا لا بقيدٍ إلَّا قيد انتهاءِ حُرِّيَّتِه حين تبدأ حُرِّيَّةُ الآخَرِين مِنَ المخلوقين وحقوقُهم، دون اعتبارٍ لحقِّ الخالق، وإلى تحقيقِ مبادئ المساواة بمفهومهم تحت مسمَّى القِسطِ والعدل بين جميعِ أفراد المجتمع كذبا وزورًا، وترسيخِ حُكمِ الشَّعب لنفسِه بنفسه أو حكمِ الأكثريَّةِ أو الأكثرِ تأثيرًا تحت مسمَّى الشُّورى ـ خداعًا ومَيْنًا ـ دون اعتبارٍ لأحكامِ الشَّرع ولا مراعاةٍ للأصلح؛ فكُلٌّ يعطي صورةً مزوَّرةً عن الإسلام سواءٌ وَفْقَ المفهوم الاشتراكيِّ أو وفق المفهومِ الرأسماليِّ أو المفهومِ الدِّيمقراطيِّ، وإِنْ كان بين هذه النُّظُمِ وبين شريعة الإسلام تشابهٌ جزئيٌّ إلَّا أنه لا يَلْزَمُ ـ تقعيدًا ـ وجودُ المشابهة الكُلِّيَّة، فإنَّه ما مِنْ شيئين إلَّا وهما يتَّفِقان في شيءٍ ولو في الوجود أو المعلوميَّة؛ ولكنَّهما يتباينانِ في أمورٍ شتَّى أخرى؛ وأهلُ الشُّبَه والتلبيس يتعلَّقون بمواضعِ المشابهةِ ويُغفِلون مواضعَ المباينةِ.

وهكذا في سلسلة التَّلبيسات ودوَّامةِ المغالطات يقف الإسلامُ ـ في مضمونه وأحكامِه ومقاصده ـ خاليًا مِنْ هذا التَّزويرِ لحقيقته؛ وعاريًا مِنَ التزييف لأصالته، إذ بالمقارنة العامَّةِ اليسيرة مع ما هو معلومٌ مِنْ دِين الإسلام بالضرورةِ تنكشف هذه الصُّوَرُ المزوَّرةُ المزيَّفةُ للإسلام الذي هو بريءٌ منها جميعًا لأنَّ ما تُبايِنُه فيه أعظمُ بكثيرٍ ممَّا تُشابِهُه فيه.

(٤) صَوْلَجان [مفرد]: ج صَوْلَجانات وصَوالِجُ وصَوالِجةٌ: عصًا معقوفةُ الطَّرَف يقذف بها اللَّاعبُ الكرةَ في بعض الألعاب؛ ويقال: صولجانُ المُلْك: عصًا يحملها المَلِكُ رمزًا لسُلطانه؛ [«مُعجَم اللُّغة العربيَّة المعاصرة» لأحمد مختار (٢/ ١٣٣٧)]؛ قال الزَّبيديُّ في [«تاج العروس» (٦/ ٧٠)]: «...فأمَّا العَصا الَّتِي اعْوَجَّ طَرَفاها خِلْقَةً فِي شجَرتِها فَهِيَ مِحْجَنٌ».

(٥) الحَدْوُ: سَوْقُ الإبلِ والغناءُ لها؛ [«مختار الصِّحاح» للرازي (٦٨)].

(٦) غُمَمٌ: جمعُ غُمَّةٍ وهو: الأمرُ المُبهَمُ المُلتبِسُ؛ الذي يوقِعُ صاحبَه في حيرةٍ ولَبْسٍ وشُبهةٍ إذا لم يهتدِ للمَخرَج؛ [انظر: [«شذا العَرف» للحملاوي (٨٨)]، «مُعجَم اللغة العربيَّة المعاصرة» لأحمد مختار (٢/ ١٦٤٤)، «تفسير السِّعدي» (٣٦٩)].

(٧) انثلَّ وانثالَ كلاهما بمعنًى أي: انصبَّ وتَتابَع وكَثُر؛ [انظر: «القاموس المحيط» للفيروزآبادي (١٢٥٨)].

(٨) المُدلِجُ مِنَ الدَّلَجِ وهو: السَّيرُ مِنْ أوَّلِ اللَّيلِ؛ [«مختار الصِّحاح» للرازي (١٠٦)].

(٩) الانبلاجُ منالبُلوج وهو: الإشراقُ، وبلَجَ الصُّبحُ أي: أضاء وبلَجَ الحقُّ إذا اتَّضَح، يقال: «الحقُّ أَبلَجُ والباطلُ لجلجٌ»؛ [«مختار الصِّحاح» للرازي (٣٩)].

(١٠) راعى الأمرَ: نظر الأمرَ: إلى أين يصير؟ وراعاه: لاحظه؛ [«مختار الصِّحاح» للرازي (١٢٥)]؛ استعمل هنا اسْمَ الفاعل مِنْ رعى لعلَّه يريد المراعاةَ وهو الترقُّبُ والانتظارُ.

والغُبْر جمعُ أغبرَ؛ ومؤنَّثُه غبراءَ وغبَرَ مِنَ الأضداد: مكَثَ وبقي، أو ذهَبَ ومضى؛ [انظر: «مختار الصِّحاح» للرازي (٢٢٤)، «القاموس المحيط» للفيروزآبادي (٥٧٥)]؛ ولعلَّ مُرادَه هنا السِّنونَ الغابرةُ أي: الماضيةُ أو البعيدة؛ أو لعلَّه وصَفَ السِّنينَ بالغُبر لكثرة الغُبار بسبب الجدب واحتباسِ القَطْر مِنَ السماء.

الانهلالُ: مصدر انهلَّ، وهو شدَّةُ الانصبابِ. يقال: انْهَلَّ الْمَطَرُ انْهِلالًا: سَالَ بشدَّة؛ [«مختار الصِّحاح» للرازي (٣٢٧)].

والقَطْر جمعُ قَطْرةٍ، وهو هنا: المطرُ؛ [انظر: «مختار الصِّحاح» للرازي (٢٥٦)].

ومعناه: ما يرجوه مَنْ يَرقُب السِّنينَ التي تمضي مُتتابِعةً دون قَطْرٍ ويُراعِيها انتظارًا لمجيء الغيث بهُطول المطر.

(١١) ليس مُرادُ المصنِّفِ مجرَّدَ الرجوعِ إلى الكتاب والاكتفاءَ به عن السُّنَّة ومعارضَتَها به فيما سَكَتَ عنه ونطقَتْ به مِنَ الأخبار والأحكام ـ كما هو صنيعُ القرآنيِّين ـ إذ طردُ هذا لا يمكن، وهو مِنْ أقبحِ البِدَع؛ فكما أنه لا يكون مُمتثِلًا لأمرِ الله المُجْمَلِ بالصلاة مَنْ لم يعتبر ـ في الجملة ـ شروطَها وهيئاتِها الواردةَ في السُّنَّة، فإنه لا يكون عاملًا بالكتاب مَنْ ضَرَبَ به بيانَه مِنَ السُّنَّة أو عارَضَ السُّنَّةَ ـ فيما استقلَّتْ بحُكمِه ـ بسكوتِ القرآن عنه، وإنَّما مُرادُه هو: الرجوعُ إلى الكتاب، ومِنَ الرجوعِ إليه: الرجوعُ إلى بيانه في السُّنَّة؛ عملًا بعمومِ قولِه تعالى: ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٧[الحشر]، وقولِه: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٣١ قُلۡ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٣٢[آل عمران]، وقولِه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٥٩[النساء]، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلٗا مُّبِينٗا ٣٦[الأحزاب]، وقولِه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ١[الحُجُرات]، وغيرها من الآيات، وبقوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ: «بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ»، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللهُ»؛ [أخرجه ابنُ ماجه في «افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم» بابُ تعظيمِ حديثِ رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، والتغليظِ على مَنْ عارضه (١٢) مِنْ حديثِ المِقدام بنِ معدي كَرِبَ الكِنديِّ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٨١٨٦)]؛ وما استقلَّتِ السُّنَّةُ بحُكمه عن الكتاب فهو كمِثْلِ ما وَرَد فيها مِنْ بيانه؛ فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم أُوتِيَ القرآنَ ومِثْلَه مِنَ السُّنَّة معه، وجَعَلَ ما حرَّم اللهُ كما حرَّم رسولُه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، وما كان في السُّنَّة فهو في كتاب الله؛ لأنها بيانٌ لِمَا أجملَتْه آياتُ الأمر بطاعة النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم ومنها الآياتُ المذكورة، ولأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم أَبْطَلَ مِنَ الشروط ما لم يكن في كتاب الله، وهو المخالِفُ لمدلولِ الكتاب والسُّنَّة.

تنبيه: قد يُظَنُّ مِنْ هذا البابِ صنيعُ بعضِ الأئمَّة رحمهم الله مِنْ معارَضةِ بعض السُّنَّة كالآحاد بعمومات الكتاب واعتذارِهم عن تخصيصه أو نسخِه بها لِظنِّيَّتها في الثبوت، وهذا الصنيعُ ـ مع مرجوحِيَّته على الصحيح ـ ليس مِنْ باب الاكتفاء بالقرآن عن السُّنَّة؛ لاعتبارهم السُّنَّةَ ـ في الجملة ـ بشروطٍ اشترطوها في أحوالٍ ـ مع اختلافهم في تلك الشروط ـ وقُصاراها في هذا الموضعِ اشتراطُهم تواتُرَها لأجلِ نسخِ المتواتر أو تخصيصِه، فلْيُتنبَّهْ.

(١٢) وصدَقَ الإمامُ مالكٌ رحمه الله ـ فيما نُقِل عنه بعبارات مختلفة ـ قوله: «لا يُصلِح آخِرَ هذه الأمَّةِ إلَّا ما أَصلحَ أوَّلَها» أو «لا يَصلُح آخِرُ هذه الأمَّةِ إلَّا بما صلَحَ به أوَّلُهَا» أو «لَنْ يأْتِيَ آخرُ هَذِهِ الأُمَّة بأَهدى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُها»؛ [انظر: «التمهيد» لابن عبد البرِّ (٢٣/ ١٠)، «الشفاء» للقاضي عياض (٢/ ٨٨)، «الموافقات» للشاطبي (٣/ ٤٩٧)].

(١٣) يعني: قبل مجيء الرِّسالة وقبل انضواءِ مَنِ انضوى منهم تحت لوائها كما يدلُّ عليه ما بعده؛ وإلَّا فهُم أكملُ في ذلك مِنْ كُلِّ مَنْ جاء بعدهم.

(١٤) هذا، وإذا كانت اللغةُ تجمعُ الألسنةَ إلَّا أنَّ اللهُ تعالى اختارَ لغةَ العربِ لسانًا لدينه: قرآنًا وسنَّةً وتشريعًا وعبادةً، وامتنَّ بذلك على المسلمين عامَّةً والعربِ خاصَّةً، وما اختيارُها إلَّا لأنها أغنَى اللغاتِ اتِّساعًا، وأَحْكَمُها بيانًا، وأقواها دليلًا وبرهانًا.

قال الشافعيُّ ـ رحمه الله ـ في [«الرسالة» (٤٢) و«تفسيره» (٢/ ١٠١٦)]: «ولسانُ العربِ أَوْسَعُ الألسنةِ مَذْهَبًا، وأَكْثَرُها ألفاظًا، ولا نعلمه يُحيطُ بجميعِ عِلْمِه إنسانٌ غير نبيٍّ، ولكنَّه لا يذهب منه شيءٌ على عامَّتِها حتَّى لا يكونَ موجودًا فيها مَن يعرفه، والعلمُ به عند العربِ كالعلمِ بالسنَّةِ عند أهل الفقه».

وهذه اللغةُ لا تَزال عنصرًا قويًّا وعاملًا مُساعِدًا لنشرِ الإسلام والإقبالِ عليه؛ لذلك كان الباعثُ الأساسيُّ للاهتمام باللغة العربية وتدوينِها وتصحيحِها ونشرِها وحفظِ التراث اللغويِّ وتنقيته مِن الدخيل الأعجميِّ أثناءَ الفتوحاتِ وما بَعْدَها إنما هو الإسلامُ بجميعِ دعائمه ومقوِّماته، وما انتهض أُناسٌ مِن الأعاجم لخدمةِ لغةِ العرب غيرةً مِن جَوْرِ الأعجمية التي هي لغةُ آبائهم وأجدادهم، لا لشيءٍ إلَّا لأنها لغةُ الفضيلةِ الإنسانيةِ التي لا تُفَرِّقُ بين العربيِّ والأعجميِّ، والقرشيِّ والحبشيِّ؛ فهي لغةُ مساواةٍ بين جميعِ المؤمنين التي أكَّدَها القرآنُ الكريم ورَعَاها الإسلامُ في مَضامِينِه وخصائصه؛ [انظر: مقالي في الموقع: «اللغة العربية.. وتآمُرُ الأعداءِ عليها»].

(١٥) فهذا خطابٌ توجيهيٌّ إلى الشباب المسلم مذكِّرا إيَّاهم بأنَّ الأوطانَ إن كانت تجمعُ الأبدانَ، وإنَّ اللُّغاتِ تجمعُ الألسنةَ فإنَّ الدِّينَ يجمعُ الأرواحَ ويُؤلِّفُها ويَصِلُ بين نَكِرَاتِ القلوبِ فيعرِّفها، وقد وصَّاهم الله تعالى أَنْ يقيموا الدِّينَ ويجتمعوا عليه، ونهاهم عن الاختلاف والفُرقة فيه، وأَخبرَهم أنَّ صراطَ اللهِ المستقيمَ الذي لا اعوجاجَ فيه عن الحقِّ هو السبيلُ الأوحدُ المُوصِلُ إليه وإلى دارِ كرامته، فهو واجبٌ اتِّباعُه والعملُ به واتِّخاذُه منهجًا لنيلِ الفوز والفلاحِ، وإدراكِ الآمال الأفراح، وتحقيقِ السعادة في الدَّارَيْن، دون طُرُقِ الضَّلالة والغِواية مِنَ البِدَع والحوادث والشُّبُهات، والمِراء والخصومات في الدِّين وغيرِها، وحذَّرهم تحذيرًا مِنْ كُلِّ ما يؤدِّي إلى التَّردِّي والشَّتات والهلاكِ ـ كما تقدَّم ذكره ـ.

ولا يخفى أنَّ رابطةَ الإسلام والأخوَّةَ الإيمانيةَ بين الأفرادِ أقوى مِنْ رابطةِ اللِّسان وأمتنُ من رابطةِ الوطن؛ فإنَّا نُكِنُّ مِنَ المودَّة والحبِّ والإخاء للمسلم غيرِ العربيِّ ما لا يستحقُّه العربيُّ غيرُ المسلم.