في اقتضاء النهي فساد المنهي عنه | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الثلاثاء 7 شوال 1445 هـ الموافق لـ 16 أبريل 2024 م

الفتوى رقم: ١٠٦٨

الصنـف: فتاوى الأصول والقواعد - أصول الفقه

في اقتضاء النهي فساد المنهي عنه

السـؤال:

المعلوم لدينا أنَّ الصحابة والتابعين رضي الله عنهم لم يزالوا يحتجُّون بالنهي على التحريم، وأنَّ فاعِلَ ما نُهِيَ عنه عاصٍ إجماعًا، ولا يُشَكُّ أنَّ العصيان يستوجب العقابَ، وأنَّ كلَّ فعلٍ يستحقُّ فاعلُه العقابَ فهو حرامٌ، فالنهيُ يقتضي التحريمَ، لكنْ هل هذا النهيُ يقتضي فسادَ المنهيِّ عنه المرادِفَ للبطلان؟

فيرجى مِنَ الشيخ أبي عبد المعزِّ تنويرُنا بتحقيقِ هذه المسألة، وجزاكم اللهُ خيرًا.

الجـواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فمسألةُ اقتضاءِ النهيِ فسادَ المنهيِّ عنه المرادفَ للبطلان هي محلُّ خلافٍ بين الأصوليِّين، والذي عليه الجمهورُ هو اقتضاؤه الفسادَ إلَّا ما خرج بدليلٍ منفصلٍ، وهو مذهب جمهور الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وأهلِ الظاهر وجماعةٍ من المتكلِّمين، سواءٌ وَرَدَ النهيُ في العبادات أو في المعاملات، وهو اختيار الغزَّاليِّ في «المنخول»، وبه قال ابنُ قدامة(١).

غيرَ أنهم يختلفون في الجهة المقتضية للفساد، وما عليه أكثرُهم هو أنَّ النهي لا يدلُّ على الفساد إلَّا مِن جهة الشرع، واختاره الآمديُّ وابنُ الحاجب(٢). وذهب بعض الحنفية والشافعية إلى عدم فساد المنهيِّ عنه، وبه قال القفَّال وإمام الحرمين، والغزَّاليُّ في «المستصفى»(٣).

وفصَّل آخرون بين العبادات والمعاملات، فقالوا: يقتضي الفسادَ في العبادات دون المعاملات، وبه قال الباقلانيُّ وأبو الحسين البصري، واختاره الفخر الرازي(٤)، وفي المسألة أقوالٌ أخرى.

هذا، وقد حقَّق الإمام الأصوليُّ أبو عبد الله الشريف التلمسانيُّ المسألة، حيث يرى أنَّ النهي عن الشيء إن كان لحقِّ الله تعالى فإنه يُفسد المنهيَّ عنه، وإن كان لحقِّ العبد فلا يُفسده، مستدلًّا بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ»(٥)، فلم يحكمِ النّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّم بفسخِ البيعِ، ولو كان مفسوخًا لم يجعلْ للمشتري خيارًا في الإمساكِ، فلمَّا جعل له الخيارَ دلَّ على أنّه لم يفسخْه -أي: أنّ ثبوتَ الخيارِ قاضٍ بصحّةِ البيعِ- ذلك لأنَّ الحقَّ فيه للعبدِ.

وإن كان النّهيُ فيه لحقِّ اللهِ تعالى فإنّه فاسدٌ، ولذلك يُفسَخُ البيعُ وقْتَ النّداءِ للجمعةِ؛ لأنّه منهيٌّ عنه لحقِّ اللهِ تعالى(٦).

وعندي أنّ هذا التّفريقَ وجيهٌ، قريبٌ مِنَ القولِ الذي قبله في التّفريقِ بين العباداتِ والمعاملاتِ إن لم يكن هو بعينِه، غيْرَ أنّ الذي يعكِّرُه أنَّ «النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَدُلُّ -اسْتِقْرَاءً- عَلَى تَعَلُّقِ المَفْسَدَةِ بِهِ أَوْ بِمَا يُلاَزِمُهُ»، إذ الشّارعُ الحكيمُ لا ينهى عنِ المصالِحِ، وإنّما ينهى عمَّا يضادُّها، وفي القضاءِ بالفسادِ إعدامٌ لها بأبلغِ الطُّرُقِ، والتّفريقُ بالمعنى المتقدِّم منتفٍ لدلالةِ النّهيِ على رجحانِ ما يتعلّقُ به مِنَ المفسدةِ، والمرجوحُ كالمستهلَكِ المعدومِ، وهو مردودٌ على فاعلِه، و«المَعْدُومُ شَرْعًا كَالمَعْدُومِ حِسًّا»، لكونِ الفعلِ وقع على خلافِ مقصودِ الشّارعِ فَيبطُلُ؛ عملاً بقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(٧).

أمّا ما نقله الشّريفُ التّلمسانيُّ مِنْ فسخِ البيعِ وقْتَ النّداءِ يومَ الجمعةِ فغيرُ متَّفقٍ عليه، فهو نقلُ فرعٍ مذهبيٍّ عنِ المالكيّةِ، أُسِّس فسادُه بناءً على أنّ النّهيَ فيه لحقِّ اللهِ تعالى، في حينِ أنّ الجمهورَ يبنون فسادَه على أنّ النّهيَ يقتضي فسادَ المنهيِّ عنه مطلقًا إلاَّ ما خرج بدليلٍ منفصِلٍ، وبهذا الفرعِ قالتِ الحنابلةُ والظّاهريّةُ، خلافًا للحنفيّةِ والشّافعيّةِ فإنّه لا يُفْسَخُ بحالٍ، وهو روايةٌ أخرى عنْ مالكٍ، ويعارضه أيضًا: الحكمُ بصحّةِ بعضِ العباداتِ مع الكراهةِ عند الجمهورِ مع أنّ النّهيَ فيها لحقِّ اللهِ تعالى، كالنّهيِ عنِ الصّلاةِ بحضرةِ الطّعامِ، والنّهيِ عنِ الصّلاةِ وهو يُدافِعه الأخبثان وغيرِها.

وفي تقديري: أنَّ أَوْلى الأقوالِ في هذه المسألةِ تحقيقًا وتقعيدًا، والذي تجتمع فيه أدلّةُ الجميعِ أنّه: إذا كان النّهيُ لذاتِه، أو لوصفٍ قائمٍ به، أو لخارجٍ عنه ملازِمٍ له، فإنّ النّهيَ يقتضي الفسادَ المرادِفَ للبطلانِ، ولا يقتضيه إذا توجَّه الأمرُ لخارجٍ عنه غيرِ ملازمٍ، أي: لمجاورٍ مُنفَكٍّ، فيبقى صحيحًا، إلاَّ أنه يترتَّب على صاحبِه الإثمُ، لِمَا صاحبَ العملَ مِنْ مُخالَفةِ رغبةِ الشّارعِ وطلبِه، والتي تُعَدُّ خارجة عن تلك الحقيقةِ.

ولا يخفى أنَّ الاعتراضَ السّابقَ غيرُ واردٍ على هذا التّفصيلِ؛ لأنَّ المفسدةَ غيرُ متعلِّقةٍ بذاتِ النّهيِ، ولا بما يلازِمُه، فافترقا.

والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٧ رمضان ١٤١٥ﻫ
الموافق ﻟ: ١٧ فيفري ١٩٩٥م


(١) «المنخول» للغزالي (١٢٦، ٢٠٥)، «روضة الناظر» لابن قدامة (٢/ ١١٢).

(٢) «الإحكام» للآمدي (٢/ ٤٨)، «منتهى السول» للآمدي (٢/ ١٦)، «منتهى السول» لابن الحاجب (١٠٠).

(٣) «البرهان» للجويني (١/ ٢٨٣)، «المستصفى» للغزالي (٢/ ٢٤).

(٤) «المحصول» للفخر الرازي (١٢/ ٤٨٦).

(٥) متفق عليه: أخرجه البخاري (٤/ ٣٦١)، ومسلم (١٠١٦٥)، وأبو داود (٣/ ٧٧٢)، ومالك في «الموطأ» (٢/ ١٧٠)، والشافعي في «الأم» (٨٢)، «مختصر المزني»، وأحمد في «مسنده» (٢/ ٢٤٢، ٢٦٥)، وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(٦) «مفتاح الوصول» للشريف النلمساني (٤٢٢) بتحقيقنا.

(٧) أخرجه مسلم (١٢/ ١٦) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقد اتفقا على إخراجه بلفظ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، أخرجه البخاري (٥/ ٣٠١)، ومسلم (١٢/ ١٦).