في قابلية حديث عمران بن حصين للتأويل بعدم العذر بالجهل | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الثلاثاء 7 شوال 1445 هـ الموافق لـ 16 أبريل 2024 م



الفتوى رقم: ٤٥٥

الصنف: فتاوى العقيدة - أركان الإيمان - مسائل الإيمان

في قابلية حديث عمران بن حصين
للتأويل بعدم العذر بالجهل

السؤال:

ذَكَرَ الإمامُ محمَّدُ بنُ عبد الوهَّاب ـ رحمه الله تعالى ـ في «كتاب التوحيد» في باب «مِنَ الشِّرك لُبْسُ الحَلْقة والخيطِ ونحوِهما لرفعِ البلاء أو دفعِه» حديثًا عن عمران بنِ حُصَينٍ رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم رأى رجلًا في يده حَلْقَةٌ مِنْ صُفْرٍ، فقال: «مَا هَذِهِ؟» قال: «مِنَ الوَاهِنَةِ»، فقال: «انْزِعْهَا؛ فَإِنَّهَا لَا تَزِيدُكَ إِلَّا وَهْنًا؛ فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا».

قال المصنِّف ـ رحمه الله تعالى ـ:

«فيه شاهدٌ لكلام الصحابة أنَّ الشرك الأصغرَ أكبرُ الكبائر، وأنه لم يُعْذَر بالجهالة، وفيه الإنكارُ بالتغليظ على مَنْ فَعَلَ ذلك».

قوله: «وأنه لم يُعْذَر بالجهالة»:

هل عدمُ العذر بالجهل في مسائل التوحيد يستلزم التكفيرَ أم لا؟ أم أنَّ قوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا» يُحْمَل على ما إذا مات ـ وهي عليه ـ بعد البيان وإقامةِ الحجَّة، وأنه يُعْذَرُ قبل ذلك بجهله إعمالًا للنصوص الكثيرة الدالَّةِ على العذر بالجهل كما في قصَّةِ ذاتِ أنواطٍ(١)؟ أم يتَّجِهُ كلامُ المصنِّف بحمله على كونِ الوسط الذي كان يعيش فيه الصحابيُّ يُفْتَرَض أنه يكون عالِمًا؛ فلم يعذر النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم ذلك الرَّجلَ بجهله؟

وهل يصحُّ أَنْ يقال: إذا كان الرجلُ لم يُعْذَرْ بالجهالة في أمرٍ مِنْ أمور الشرك الأصغر فكيف بالشرك الأكبر؟! يرجى منكم التوجيهُ والتفصيل، بارك الله فيكم.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فإنَّ حقيقة منهجِ محمَّد بنِ عبد الوهَّاب ـ رحمه الله ـ في قضيَّةِ تأثيرِ عارضِ الجهل على صحَّة الإسلام وبطلانه هي على منهاج أهل السُّنَّة في التفريق بين أحكام الكفر على الحقيقة وما يتعلَّق بالباطن، وبين الحكم على المعيَّن بالكفر في الظاهر؛ ذلك لأنَّ الحكم المطلق يتعلَّق بالوصف الشرعيِّ وبيانِ مَناطِ الحكم فيه المتمثِّلِ في الالتزام بكُلِّ ما يعلمه مِنَ الشريعة على وجه التفصيل، وهذا الالتزامُ التفصيليُّ يقتضي الالتزامَ الإجماليَّ الباطنيَّ المتمثِّلَ في الرضى بالشريعة، والانقيادَ لحكم الله وشرعِه، والعزمَ على الالتزام به.

أمَّا الحكم على المعيَّن فيَلْزَم له توفُّرُ الشروط فيه وانتفاءُ الموانع؛ ذلك لأنَّ المانع مِنْ تكفيره هو عدمُ تبيُّنِ قَصْدِ المعيَّن بفعله، وليس هو اشتراطَ الحجَّة لكونها قائمةً بالفطرة والإقرار بالشهادة؛ وعليه فليس كُلُّ عملٍ شركيٍّ في الظاهر يَلْزَم منه أَنْ يتقصَّد به ما يتحقَّق معه عبادةُ غيرِ الله تعالى، كالمسائل الخفيَّة التي يخفى دليلُها على بعض الناس كاستعمال الصرف والعطف ـ وهو نوعٌ مِنَ السحر يزعمون أنه يحبِّب المرأةَ إلى زوجها فلا ينصرف عنها ـ أو كالمسائل الدقيقة والخفيَّة المختلَف فيها أو التي تحتاج إلى علمٍ بها لا يُدْرَك بالعقل كالأسماء والصفات، أو لاحتمالِ أنه لم يفعله على وجه التقرُّب إلى غيرِ الله تعالى، أو لاحتمالِ ظنِّه أنَّ فِعْلَه لا يُناقِض حقيقةَ الْتزامه بالشريعة؛ فيكون جهلُه قائمًا على عدمِ العلم بمخالَفةِ فعلِه لأصلِ الالتزام بالشريعة، لا مِنْ ناحيةِ جهلِه بحقيقة هذا الالتزام، والناسُ يختلفون بحسب بلوغ الحجَّة، وبحسب القدرة على الالتزام بالمأمورات والمنهيَّات، وكذلك يختلفون في العلم ببعض أعمال الشرك؛ إذ قد تخفى على بعض الناس، وقد يفعلونها مِنْ غيرِ قصدِ ما يكون به الشركُ، أو العلمِ بأنها عبادةٌ لا تَصِحُّ إلَّا لله؛ فقَدْ يجهل أنها كذلك، ومثلُ هذا لا يُعْلَم إلَّا بدليلٍ خاصٍّ، لا بمجرَّدِ الحجَّة الفطريَّة والإقرارِ المُجْمَل(٢).

لذلك فالواجبُ التبيُّنُ مِنْ قصدِ المعيَّن قبل الحكم بالتكفير فيما إذا كانَتِ الحُجَّةُ قائمةً عليه، كما هو الشأنُ بالنسبة للمسائل العَقَديَّة الظاهرةِ البيِّنة الجليَّة، أو المعلومةِ مِنَ الدِّين بالضرورة، أو لم تكنِ الحجَّةُ قائمةً كما في المسائل الدقيقة والخفيَّة ونحوِ ذلك، التي تحتاج إلى إظهارِ الحجَّة وبيانِ المَحَجَّة وإزالةِ الشبهة.

علمًا أنه ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ يُراعى ـ في الحكم ـ حالُ الجاهل وصِفَتُه وحالُ بيئته، كمَنْ هو عاجزٌ عن طَلَبِ العلم والفهمِ عَجْزَ الطالبِ، أو كان حديثَ عهدٍ بالإسلامِ، أو نَشَأَ في بادِيَةٍ نائِيَةٍ؛ فلا يمكن ـ والحالُ هذه ـ اعتبارُ مجرَّدِ النظر إلى الحجَّة ظهورَها دون التبيُّن مِنْ حالِ المعيَّن.

وهذا التفريقُ السابق تجسَّد عمليًّا في مسالكِ أهل السُّنَّة: فالإمام أحمد ـ رحمه الله ـ مثلًا ـ مع تكفيره للجهميَّة القائلين بخَلْق القرآن ـ فقَدْ كان يدعو للخليفة الذي حَبَسَه ويستغفرُ له، وكذا وُلَاة الأمرِ الذين قالوا بقول الجهميَّة وامْتَحَنوا وعاقَبُوا مَنْ خالَفَهم؛ قال ابنُ تيميَّة ـ رحمه الله ـ: «ومع هذا فالإمامُ أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ ترحَّم عليهم واستغفر لهم لعِلْمِه بأنهم لم(٣) يُبَيَّنْ لهم أنهم مكذِّبون للرسول ولا جاحِدون لِمَا جاء به، ولكن تأوَّلوا فأَخْطَئُوا وقلَّدوا مَنْ قال لهم ذلك»(٤).

هذا، وحديثُ عِمْرَانَ بنِ الحُصَين رضي الله عنه ضعيفٌ بشواهده لا يُحْتَجُّ به؛ فقَدْ أخرجه أحمدُ(٥) بذكرِ مَحَلِّ الشاهد، وابنُ ماجه(٦) وليس عنده: «فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ»، وابنُ حبَّان بلفظ: «إِنَّكَ إِنْ تَمُتْ ـ وَهِيَ عَلَيْكَ ـ وُكِلْتَ إِلَيْهَا»(٧)، وفي إسناده عِلَّتان بيَّنهما الشيخُ الألبانيُّ ـ رحمه الله ـ في «سلسلة الأحاديث الضعيفة»(٨).

هذا، وإذا كان الحديثُ بشواهده ضعيفًا فكيف باللفظة الواردةِ عن الإمام أحمدَ المجرَّدةِ عن الشاهد وهي قولُه: «فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ ـ وَهِيَ عَلَيْكَ ـ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا»؟! ومع ذلك فهي قابلةٌ للتأويل على تقديرِ صحَّة الحديث، ووجهُه: «إِنْ عَمِلْتَ هذا العملَ بعد قيام الحجَّة عليك مِنْ رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم ما أَفْلَحْتَ أبدًا»، ويكون قد عَذَره بجهله لكونها مِنَ المسائل التي لا يَسَعُه معرفتُها إلَّا بعد إعلامه بحكم الله فيها(٩).

أمَّا ما جاء عن الشيخ محمَّد بنِ عبد الوهَّاب ـ رحمه الله ـ في الدلالة على عدمِ الإعذار بالجهل في الشرك بعد إيراده لحديثِ عمرانَ بنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه، فإنَّ مُرادَه مِنْ عدم العذر بالجهالة إنما هو بعد قيام الحجَّة، أو تكون الحجَّةُ قائمةً عليه، أو تكون في المسائل الظاهرةِ البيِّنة الجليَّة أو المعلومةِ مِنَ الدِّين بالضرورة كأصول الدِّين والإيمان التي أوضحها اللهُ في كتابه وبلَّغها النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم أتمَّ البلاغ؛ فالعذرُ بالجهل فيها غيرُ مقبولٍ لكُلِّ مَنِ ادَّعاه بعد بلوغ الحجَّة وظهورِ المَحَجَّة؛ لذلك نجد كلامَه ـ رحمه الله ـ في الحُكْم على المعيَّن يقول: «وأمَّا ما ذَكَرَ الأعداءُ عنِّي أنِّي أكفِّر بالظنِّ وبالموالاة، أو أكفِّر الجاهلَ الذي لم تقم عليه الحجَّةُ فهذا بهتانٌ عظيمٌ يريدون به تنفيرَ الناسِ عن دِينِ الله ورسولِه»(١٠).

فالحاصل أنَّ الأصل المفترَض في المُقِرِّ بالشهادة أَنْ يكون مُلتزِمًا بمُقتضاها، فإِنْ ظَهَر نقضُه لهذا الالتزامِ التفصيليِّ مِنْ جهةِ تركِه للواجبات أو ارتكابِه للمحرَّمات أو تلبُّسِه بالشركيَّات عن جهلٍ بحكمِ الله فيها بالأمر والنهي ـ على وَفْقِ ما سنبيِّنه في ضوابط العذر بالجهل(١١) ـ لم يكن مؤاخَذًا حتَّى تبلغه الحجَّةُ في ذلك، والمعتبَرُ في بلوغ الحجَّةِ إمكانُ العلم وعدمُ إمكان الجهل؛ إذ «لَا تَكْلِيفَ إِلَّا بَعْدَ العِلْمِ بِالحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ» الرساليَّة على حالِ المعيَّن على وجه الخصوص؛ لذلك تقرَّر عند العلماء أنَّ مِنْ شرطِ تحقيق الشهادتين وقَبولها العِلْمَ المُنافيَ للجهل واليقينَ المُنافيَ للشكِّ؛ ومِنْ جهةٍ أخرى فإنَّ حديثَ عمرانَ بنِ الحصين رضي الله عنه يتعلَّق بالشرك الأصغر، فإذا كان الإمامُ محمَّد بنُ عبد الوهَّاب ـ رحمه الله ـ يعذر بالجهل في الشرك الأكبر بالاعتبارات السالفة البيان فالعذرُ به في الشرك الأصغر مِنْ بابٍ أَوْلى، ويكون معنى قوله: «إنه لم يُعْذَر بالجهالة» إمَّا أَنْ يُحْمَل على التقييد بما بَعْدَ قيامِ الحجَّة، وإمَّا أَنْ تكون الحجَّةُ قائمةً عليه مع مراعاة حالِ الجاهل وصِفَتِه وحالِ بيئته؛ ولا يخفى أنَّ الوقوع في الشركِ الأصغر لا يصيِّر صاحِبَه مُرْتَدًّا عن الإسلام ولو قامَتِ الحجَّةُ عليه، بخلاف الشرك الأكبر فيلحق مَنْ وَقَعَ فيه قبحُ المعصية ويُسمَّى فاعِلُها بها، سواءٌ قبل قيامِ الحُجَّة أو بعدها، غيرَ أنَّ العقوبة والعذابَ في الدارين متوقِّفان على بلوغ الرسالة لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا ١٥[الإسراء]؛ لذلك فإنَّ القول بأنَّ الرجل «إذا لم يُعْذَر بالجهالة في الشرك الأصغر فكيف بالشرك الأكبر؟» لا يصحُّ لِخُلُوِّ القياس مِنَ الاعتبار السابق.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢٩ ربيع الثاني ١٤٢٧ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٧ مـاي ٢٠٠٦م

 



(١) ولفظ الحديث: «عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم إِلَى حُنَيْنٍ ـ وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ ـ وَلِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا وَيَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، قَالَ: فَمَرَرْنَا بِالسِّدْرَةِ فَقُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهَا السُّنَنُ، قُلْتُمْ ـ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ـ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: ﴿ٱجۡعَل لَّنَآ إِلَٰهٗا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةٞۚ قَالَ إِنَّكُمۡ قَوۡمٞ تَجۡهَلُونَ ١٣٨ [الأعراف]، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»» [أخرجه الترمذيُّ في «الفتن» بابُ ما جاء: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» (٢١٨٠)، وقال: «حَسَنٌ صحيحٌ»، وأحمد (٢١٨٩٧)، والطبرانيُّ ـ واللفظُ له ـ في «المعجم الكبير» (٣/ ٢٤٤).مِنْ حديثِ أبي واقدٍ الليثيِّ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «المشكاة» (٥٤٠٨)].

(٢) راجِعْ: الكلمة الشهرية رقم: ٣٤ بعنوان «ضوابط مسألة العذر بالجهل» على الموقع الرسمي.

(٣) وفي «المجموع»: «لمن»، ولعلَّ الصوابَ ما أَثبَتُّه.

(٤) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٣/ ٣٤٩).

(٥) في «المسند» (٢٠٠٠٠).

(٦) في «الطبِّ» باب تعليق التمائم (٣٥٣١).

(٧) في «صحيحه» كتاب «الرقى والتمائم» (٦٠٨٥).

(٨) انظر: «سلسلة الأحاديث الضعيفة» (١٠٢٩).

(٩) انظر: الكلمة الشهرية رقم: (٣٤) «ضوابط مسألة العذر بالجهل» على الموقع الرسمي.

(١٠) «مجموعة مؤلَّفات الشيخ محمَّد بنِ عبد الوهَّاب» (٥/ ٢٥).

(١١) انظر: الكلمة الشهرية رقم: (٣٤) «ضوابط مسألة العذر بالجهل» على الموقع الرسمي.