Skip to Content
الثلاثاء 7 شوال 1445 هـ الموافق لـ 16 أبريل 2024 م

في توجيه ثناءِ ابنِ تيمية
على الجُنَيْد سيِّدِ الطائفة الصوفية
(وقفاتٌ وتأمُّلات)

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فقَدْ ظَهَر مقالٌ في بعض الصُّحُف الجزائرية لأحَدِ أصحاب المَكَنة والقرار، يحتوي على نقولٍ لشيخ الإسلام ابن تيمية في الثناء على الجنيد رحمهما الله، وهذا نصه بالخطِّ الغليظ: «الإمام ابنُ تيمية يُشيد بإمام التصوُّف !!! لا يرتاب العلماء في أنَّ الإمام الجُنيد مِنْ أئمَّة الهدى، بل هو مرجعٌ مِنْ مرجعياتِ تديُّنِ أسلافنا العلماء،،، ولكنَّني لاحظتُ أنَّ كثيرًا ممَّنْ يتدخَّلون على هذه الصفحة للدفاع عن طائفةِ «السلفية» يهاجمون طائفةَ «التصوُّف»، وكأنَّ منهجهم ضلالٌ مُبينٌ؛ وإنِّي أسوق ـ هنا ـ شهادةَ شيخ الإسلام ابنِ تيمية في إمام التصوُّف أبي القاسم الجنيد (٢٢١هج - ٢٩٧هج) ليتيقَّن هؤلاء أنَّ في مهاجمة التصوُّف مخالفةً لمنهج علماء السلف، وأنَّ الأصل هو عدمُ تعميم الأحكام، بل موافقةُ ما وافق الشرعَ ومخالفةُ ما خالفه؛ قال ابنُ تيمية في «مجموع الفتاوى»: «كان الجنيد رضي الله عنه سيِّدُ الطائفة إمامَ الهدى... والجنيدُ وأمثالُه أئمَّةُ هدًى»(١)؛ وقال: «كان الجنيد رضي الله عنه سيِّد الطائفة، ومِنْ أحسنهم تعليمًا وتأديبًا وتقويمًا»(٢)؛ وقال بصددِ مناقشة مسألة الإرادة الكونية القدَرية والفرقِ بينها وبين الإرادة الدينية: «وكانت هذه المسألةُ قدِ اشتبهَتْ على طائفةٍ مِنَ الصوفية، فبيَّنها الجُنَيْدُ ـ رحمه الله ـ لهم، مَنِ اتَّبَع الجُنَيدَ فيها كان على السداد، ومَنْ خالفه ضلَّ»(٣)».

هذا، وقد استصحب صاحبُ المقال هذا الثناءَ على طائفة المتصوِّفة بجميع طبقاتهم وأقسامهم، سواءٌ كانت حلوليةً أو وجوديةً أو مُباحيةً أو قبوريةً أو غيرَها، هكذا بالتعميم، واستعمل تلك النقولَ لمطالبة السلفية بالكفِّ عن مهاجمة الصوفية ـ بالجملة ـ وعدمِ التعميم في إنزال الأحكام؛ لكونِ ذلك ـ في زعمه ـ مخالفةً لمنهج علماء السَّلف؛ فإنَّ للسلفيِّين ـ أهلِ السنَّة والجماعة ـ مع هذا المقالِ وقفات:

الوقفة الأولى: أنَّ أبا القاسم الجنيد(٤) أصلُه فارسيٌّ مِنْ «نهاوند»، يُلقِّبه الصوفية ﺑ «سيِّد الطائفة»، وهو ـ وإِنْ كان مِنَ المتصوِّفة الأوائل الذين غلبَتْ عليهم الاستقامةُ في العقيدة، والإكثارُ مِنْ دعوى الْتزام السنَّة ونهجِ السلف ـ إلَّا أنه تأثَّر بأستاذه الحارث المُحاسِبيِّ [ت: ٢٤٣ﻫ] الذي يُعَدُّ أوَّلَ مَنْ خلط الكلامَ بالتصوُّف، وبخاله السَّرِيِّ السَّقَطيِّ الفارسيِّ [ت: ٢٥١ﻫ]، وهو أوَّلُ مَنْ تكلَّم ـ في بغداد ـ في ترتيب المقامات وبسطِ الأحوال، كما تأثَّر بآراءِ ذي النون المصريِّ [ت: ٢٤٥ﻫ]، وهو أوَّلُ مَنْ تكلَّم في معرفة الأحوال والمقامات.

هذا، وإِنْ كان الجنيد خالف طريقةَ ذي النون في الفَناء، وأَنكرَ شطحاتِ الصوفية والقولَ بسقوط التكاليف، إلَّا أنه وردَتْ عنه عباراتٌ ومصطلحاتٌ عدَّها العلماء مِنَ الشطحات، نذكر منها على سبيل الإيجاز:

ـ قول الجنيد: «علمُنا مُشتبِكٌ مع حديثِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم»(٥)، وهذا العلم المشترك على وجه الاشتباك يؤدِّي ـ بلا ريبٍ ـ إلى آثارٍ غايةٍ في السوء، فضلًا عن اعتقاده.

ـ وعرَّف الجنيدُ التصوُّفَ بقوله: «أَنْ تكون مع الله تعالى بلا علاقة»(٦)، وهو يقصد قَطْعَ الإنسان صِلَتَه مع جميع البشر، والاختفاءَ عن بني جنسه في الأربطة والخوانق والزوايا؛ ولا يخفى بطلانُ هذه الدعوةِ لمخالفتها لقول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ»(٧).

ـ وعرَّف التصوُّفَ ـ أيضًا ـ بقوله: «تصفية القلب عن موافقة البريَّة، ومفارقةُ الأخلاق الطبعية، وإخماد الصفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلُّق بالعلوم الحقيقية، واستعمالُ ما هو أولى على الأبدية، والنصحُ لجميع الأمَّة، والوفاء لله على الحقيقة، واتِّباع الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم في الشريعة»(٨).

ـ وقال الجنيد ـ أيضًا ـ: «أُحِبُّ للمريد المبتدي أَنْ لا يشغل قلبَه بهذه الثلاث وإلَّا تغيَّر حالُه: التكسُّب، وطلبُ الحديث، والتزوُّجُ»، وقال: «أُحِبُّ للصوفيِّ أَنْ لا يقرأ ولا يكتب لأنه أجمعُ لهمِّه»(٩).

ـ وجاء عن الجنيد أنه قال ـ أيضًا ـ: «ما أخَذْنا التصوُّفَ عن القِيل والقال، لكن عن الجوع وتركِ الدنيا وقطعِ المألوفات والمُستحسَنات»(١٠).

وهذه جملةٌ مِنْ مخالفاتِه الصريحة والظاهرة لِمَا جاء به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولِمَا كان عليه صحابتُه الكرام رضي الله عنهم؛ فكيف يكون الجنيد محلَّ تأييدٍ وموضعَ إشادةٍ ـ في مثلِ هذه المخالفات ـ فتأمَّلْ؟!

الوقفة الثانية: لا نسلِّم أنَّ ورودَ الثناءِ مِنِ ابنِ تيمية على الجنيد هو ثناءٌ على التصوُّف برُمَّته أوَّلًا؛ والمتأمِّلُ في كلامه يدرك أنَّ ثناءَه عليه جاء مِنْ جهةِ مُوافَقةِ أفاضل الطائفة المتصوِّفة الأولى لبعضِ جوانب العقيدة الصحيحة، وتوصِيَتِهم باتِّباع السنَّة، وتحذيرِهم مِنَ الغُلُوِّ في القول بالقَدَر والفَناء ونحوِ ذلك ممَّا زلَّ فيه بعضُ أصحابهم ومُريدِيهم؛ فهذه الطائفة ـ بهذا الاعتبار ـ أحسنُ حالًا إذا ما قُورِنَتْ بطوائف المتصوِّفة الغالية ثانيًا؛ فمثلُ هذا الثناءِ يُشبِه قولَ المحدِّثين في الخبر: «أصحُّ حديثٍ في الباب»، أو قولهم: «رجالُه ثِقَاتٌ» أو «رجالُه رجالُ الصحيح»؛ فليس ذلك تصحيحًا للحديث، ولا يُساوي قولَهم: «حديثٌ صحيحٌ» ولا حتَّى «إسنادُه صحيحٌ»؛ علمًا أنَّ قولَ ابنِ تيمية ـ مع عُلُوِّ كعبه وسُمُوِّ منزلته ـ هو فيه مجتهدٌ يُصيب ويخطئ، ولا عصمةَ إلَّا لمَنْ عَصَمه اللهُ تعالى؛ فلا مجالَ ـ في المنهج السلفيِّ ـ للاحتجاج بالتعصُّب المذهبيِّ، أو بالجمود الفكريِّ، وتقليد الآباء، وتقديس الرجال ـ ثالثًا ـ فتأمَّلْ.

وهاهي ذي بعضُ النقول التي تبيِّن وجوهَ ما تقدَّم ذِكرُه عن الصوفية:

ـ قال ابنُ الجوزيِّ ـ رحمه الله ـ في مقامِ بيانِ معنى التصوُّف: «وهذا الاسْمُ ظَهَر للقوم قبل سنةِ مائتين، ولمَّا أظهره أوائلهم تكلَّموا فيه وعبَّروا عن صِفَته بعباراتٍ كثيرةٍ، وحاصلُها: أنَّ التَّصوُّف ـ عندهم ـ رياضةُ النَّفس ومجاهدةُ الطبع بردِّه عن الأخلاق الرذيلة وحملِه على الأخلاق الجميلة مِنَ الزهد والحِلم والصبر والإخلاص والصدق .. عن الطوسيِّ يقول: سَمِعْتُ أبا بكر بنَ المثاقف يقول: سألتُ الجنيد بنَ محمَّدٍ عن التصوُّف فقال: «الخروج عن كُلِّ خُلُقٍ رديءٍ، والدخولُ في كُلِّ خُلُقٍ سنِّيٍّ».. وعلى هذا كان أوائلُ القوم؛ فلبَّس إبليسُ عليهم فِي أشياءَ ثمَّ لبَّس على مَنْ بعدهم مِنْ تابعيهم؛ فكلَّما مضى قرنٌ زاد طمعُه في القرن الثاني؛ فزاد تلبيسُه عليهم، إلى أَنْ تمكَّن مِنَ المتأخِّرين غايةَ التمكُّن؛ وكان أصلُ تلبيسه عليهم أنه صدَّهم عَنِ العلم وأراهم أنَّ المقصود العملُ؛ فلمَّا أطفأ مصباحَ العلم عندهم تخبَّطوا فِي الظلمات»(١١).

ـ وقال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ وهو يَصِفُ اختلافَ الناس في الحكم على المتصوِّفة وتنازُعَهم في طريقتهم إلى طَرَفَيْ نقيضٍ مفرِّقًا بين أوائلهم ومتأخِّريهم، حيث جَعَل الأوائلَ مِنَ المجتهدين في الطاعة بين المقتصد والمجتهد، أمَّا المنتسبون إليهم فمنهم مَنْ هو ظالمٌ لنفسه عاصٍ لربِّه، ثمَّ قال ـ رحمه الله ـ: «وقد انتسب إليهم طوائفُ مِنْ أهل البِدَع والزندقة؛ ولكن عند المحقِّقين مِنْ أهل التصوُّف ليسوا منهم: كالحلَّاج مثلًا؛ فإنَّ أكثرَ مشايخ الطريق أنكروه وأخرجوه عن الطريق، مثل: الجنيد بنِ محمَّدٍ سيِّدِ الطائفة وغيره .. فهذا أصلُ التصوُّف؛ ثمَّ إنه ـ بعد ذلك ـ تشعَّب وتنوَّع وصارت الصوفيةُ ثلاثةَ أصنافٍ: صوفية الحقائق، وصوفية الأرزاق، وصوفية الرسم:

فأمَّا «صوفية الحقائق»: فهُم الذين وصَفْناهم.

وأمَّا «صوفية الأرزاق» فهُم الذين وُقِفَتْ عليهم الوقوفُ كالخوانك؛ فلا يُشترَط في هؤلاء أَنْ يكونوا مِنْ أهل الحقائق فإنَّ هذا عزيزٌ، وأكثرُ أهل الحقائق لا يتَّصِفون بلزوم الخوانك؛ ولكن يُشترَط فيهم ثلاثةُ شروط: أحَدُها العدالة الشرعية بحيث يُؤدُّون الفرائضَ ويجتنبون المحارم، والثاني: التأدُّب بآداب أهل الطريق ـ وهي الآداب الشرعية ـ في غالب الأوقات، وأمَّا الآداب البدعية الوضعية فلا يلتفت إليها، والثالث: أَنْ لا يكون أحَدُهم متمسِّكًا بفضول الدنيا؛ فأمَّا مَنْ كان جمَّاعًا للمال، أو كان غيرَ متخلِّقٍ بالأخلاق المحمودة ولا يتأدَّب بالآداب الشرعية، أو كان فاسقًا فإنه لا يَستحِقُّ ذلك.

وأمَّا «صوفية الرسم» فهُم المُقتصِرون على النسبة، فهَمُّهم في اللباس والآداب الوضعية ونحوِ ذلك، فهؤلاء في الصوفية بمنزلة الذي يقتصر على زيِّ أهل العلم وأهلِ الجهاد ونوعٍ ما مِنْ أقوالهم وأعمالهم، بحيث يظنُّ الجاهلُ حقيقةَ أمرِه أنه منهم وليس منهم»(١٢).

ـ وقال ـ أيضًا ـ: «وأمَّا أئمَّةُ الصوفية والمشايخُ المشهورون مِنَ القدماء: مثل الجنيد بنِ محمَّدٍ وأتباعِه، ومثل الشيخ عبد القادر وأمثاله فهؤلاء مِنْ أعظم الناس لزومًا للأمر والنهي وتوصيةً باتِّباع ذلك وتحذيرًا مِنَ المشي مع القَدَر كما مشى أصحابُهم أولئك؛ وهذا هو «الفرق الثاني» الذي تكلَّم فيه الجنيدُ مع أصحابِه؛ والشيخُ عبد القادر كلامُه كُلُّه يدور على اتِّباع المأمور، وتركِ المحظور، والصبرِ على المقدور؛ ولا يُثبِت طريقًا تخالف ذلك أصلًا، لا هو ولا عامَّةُ المشايخ المقبولين عند المسلمين؛ ويحذِّر عن ملاحظة القَدَر المحض بدون اتِّباع الأمر والنهي كما أصاب أولئك الصوفيةَ الذين شَهِدوا القَدَرَ وتوحيدَ الربوبية وغابوا عن الفرق الإلهيِّ الدينيِّ الشرعيِّ المحمَّديِّ الذي يفرِّق بين محبوب الحقِّ ومكروهِه، ويثبت أنه لا إله إلَّا هو»(١٣).

ـ وقد قسَّم الفخر الرازيُّ الصوفيةَ إلى ستِّ فِرَقٍ بقوله: «وهُم فِرَقٌ:

الأولى: أصحاب العادات، وهم قومٌ منتهى أمرهم وغايتُه تزيينُ الظاهر كلُبْس الخِرْقة وتسويةِ السجَّادة.

الثانية: أصحاب العبادات، وهم قوم يشتغلون بالزهد والعبادة مع ترك سائر الأشغال.

الثالثة: أصحاب الحقيقة، وهم قومٌ إذا فرغوا مِنْ أداء الفرائض لم يشتغلوا بنوافل العبادات، بل بالفكر وتجريد النفس عن العلائق الجسمانية ..

الرابعة: النورية، وهم طائفةٌ يقولون: إنَّ الحجاب حجابان: نوريٌّ وناريٌّ؛ أمَّا النوريُّ فالاشتغال باكتساب الصفات المحمودة كالتوكُّل والشوق والتسليم والمراقبة والأنس والوحدة والحالة؛ أمَّا الناريُّ فالاشتغال بالشهوة والغضب والحرص والأمل؛ لأن هذه الصفاتِ صفاتٌ ناريَّةٌ كما أنَّ إبليس لمَّا كان ناريًّا فلا جَرَمَ وَقَع في الحسد.

الخامسة: الحلولية، وهم طائفةٌ مِنْ هؤلاء القوم الذين ذكَرْناهم يرَوْن في أنفسهم أحوالًا عجيبةً، وليس لهم مِنَ العلوم العقلية نصيبٌ وافرٌ؛ فيتوهَّمون أنه قد حَصَل لهم الحلولُ أو الاتِّحاد؛ فيدَّعون دعاوى عظيمةً؛ وأوَّلُ مَنْ أظهر هذه المقالةَ في الإسلام: الروافضُ؛ فإنهم ادَّعَوُا الحلولَ في حقِّ أئمَّتهم.

السادسة: المباحية، وهم قومٌ يحفظون طامَّاتٍ لا أصلَ لها وتلبيساتٍ في الحقيقة، وهم يدَّعون محبَّةَ الله تعالى، وليس لهم نصيبٌ مِنْ شيءٍ مِنَ الحقائق، بل يخالفون الشريعةَ ويقولون: إنَّ الحبيب رَفَع عنه التكليفَ، وهو الأشرُّ مِنَ الطوائف، وهم ـ على الحقيقة ـ على دِينِ مزدك »(١٤).

فظَهَر للمتأمِّل أنَّ كلامَ ابنِ تيمية ـ رحمه الله ـ في الثناء على الجنيد ـ رحمه الله ـ ومَنْ كان على مثلِ القَدْر الذي كان عليه مِنَ التوحيد والاتِّباع إنما هو ثناءٌ على طائفةٍ مِنْ أوائل المتصوِّفة المعروفين بالزهد والتقلُّل مِنَ الدنيا، والبعيدين عن المزالق العَقَدية والانحرافاتِ والسلوكية الخطيرة التي تبنَّاها كثيرٌ مِنْ متأخِّريهم الذين انحرفوا عن سواء السبيل بأنواعٍ مِنَ الجنايات: كتعظيم القِباب والأضرحة، وتقديسِ المشايخ، والغُلُوِّ في القَدَر، والفَناء في توحيد الربوبية، وتعطيلِ الشرع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعلُّقِ بالخرافات والمنامات، ودعوى اتِّحاد الباري سبحانه بهم وحلولِه فيهم؛ تعالى اللهُ عمَّا يقولون عُلُوًّا كبيرًا.

الوقفة الثالثة: أنَّ مدح شخصٍ أو شخصين أو طائفةٍ معيَّنةٍ مُنتسِبةٍ لمنهجٍ، لا يَلْزَم منه ـ بالضرورة ـ مدحُ منهجٍ بأكمله وطريقٍ برُمَّته له أصولُه وقواعدُه؛ إذ الفرقُ بين الشخص والمذهب قائمٌ، وهكذا صنع ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ حين أثنى على الجنيد عينًا؛ فقَدْ ذمَّ منهجَ المتصوِّفة أصلًا وانحرافًا فقال: «ولهذا كان العارفون كالجنيد بنِ محمَّدٍ: سيِّد الطائفة ـ قدَّس الله رُوحَه ـ لمَّا سُئِل عن التوحيد قال: «التوحيد إفراد الحدوث عن القِدَم»؛ فإنه كان عارفًا، ورأى أقوامًا ينتهي بهم الأمرُ إلى الاتِّحاد، فلا يميِّزون بين القديم والمُحدَث، وكان ـ أيضًا ـ طائفةٌ مِنْ أصحابه وقعوا في الفناء في توحيد الربوبية، الذي لا يميز فيه بين المأمور والمحظور، فدَعَاهم الجنيد إلى الفرق الثاني وهو توحيد الإلهية، الذي يميز فيه بين المأمور والمحظور، فمنهم مَنْ وافقه ومنهم مَنْ خالفه ومنهم لم يفهم كلامَه .. وهذا الذي ذكره الجنيد مِنَ الفرق بين القديم والمُحدَث، والفرقِ بين المأمور والمحظور، بهما يزول ما وَقَع فيه كثيرٌ مِنَ الصوفية مِنْ هذا الضلال؛ ولهذا كان الضُّلَّال منهم يذمُّون الجنيدَ على ذلك كابن عربيٍّ وأمثالِه؛ فإنَّ له كتابًا سمَّاه: «الإسرا إلى المقام الأسرى» مضمونُه حديثُ نفسٍ ووساوسُ شيطانٍ حصلَتْ في نفسه، جَعَل ذلك معراجًا كمعراج الأنبياء، وأخذ يعيب على الجنيد وعلى غيره مِنَ الشيوخ ما ذكروه»(١٥).

وعلى هذا سار أعلامُ الأمَّة مِنَ التفريق بين الأفراد والمسلك العامِّ، مِنْ حيث ثناؤهم على أشخاصٍ بأعيانهم لموافقتهم الحقَّ وإصابتِهم الحقيقةَ دون الثناء على مسلكهم كما هو صنيعُ شيخ الإسلام ابنِ القيِّم ـ رحمه الله ـ في كلامه عن الشيعة(١٦).

الوقفة الرابعة: أنَّ الذي استقرَّ عليه أئمَّةُ الهدى المُقتَفون للسنَّة النبوية أنَّ الصوفية الحديثة ليسَتِ امتدادًا للصوفية الأولى، بل هي مبتورةُ الصِّلَة بأوائل الطريقة، وليس لهم ممَّنْ تقدَّمهم كأمثالِ مَنْ أثنى عليهم ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ إلَّا نسبةُ التسمية بُغيةَ التلبيس والتعمية؛ وكما هو معلومٌ فإنَّ الاتِّفاق في الأسماء لا يقتضي التماثلَ في المسمَّيات، قال محمَّد البشير الإبراهيمي: «إنَّنا عَلِمْنا حقَّ العلم ـ بعد التروِّي والتثبُّت، ودراسةِ أحوال الأمَّة ومناشئِ أمراضها ـ أنَّ هذه الطُّرُقَ المُبتدَعة في الإسلام هي سببُ تفرُّق المسلمين، لا يستطيع عاقلٌ سَلِم منها ولم يُبْتَلَ بأوهامها أَنْ يكابر في هذا أو يدفعه، وعَلِمْنا أنها هي السبب الأكبر في ضلالهم في الدِّين والدنيا، ونعلم أنَّ آثارها تختلف ـ في القوَّة والضعف ـ اختلافًا يسيرًا باختلاف الأقطار، ونعلم أنها أظهرُ آثارًا وأعراضًا وأشنعُ صُوَرًا ومَظاهِرَ في هذا القطرِ الجزائريِّ والأقطارِ المُرتبِطة به ـ ارتباطَ الجوار القريب ـ منها في غيره؛ لأنها في هذه الأقطارِ فروعٌ بعضُها مِنْ بعضٍ، ونعلم أنَّنا ـ حين نُقاوِمها ـ نُقاوِم كُلَّ شرٍّ، وأنَّنا حين نقضي عليها ـ إِنْ شاء الله ـ نقضي على كُلِّ باطلٍ ومُنكَرٍ وضلالٍ، ونعلم ـ زيادةً على ذلك ـ أنه لا يتمُّ ـ في الأمَّةِ الجزائرية ـ إصلاحٌ في أيِّ فرعٍ مِنْ فروع الحياة مع وجودِ هذه الطُّرُقية المشئومة، ومع ما لها مِنْ سلطانٍ على الأرواح والأبدان، ومع ما فيها مِنْ إفسادٍ للعقول وقتلٍ للمواهب»(١٧).

والجدير بالتنبيه أنَّ المتأمِّل في انتقاد السلفية للصوفية ومَنْ على شاكلتهم مِنَ الطوائف الدخيلة على الإسلام المشوِّهةِ لجماله والمعكِّرةِ لصفوه، يدرك أنه وَرَد بأسلوبٍ علميٍّ بعيدٍ عن اللَّدَد في الخصومة ونافرٍ مِنَ اللجاج في المعارضة، وذلك مِنْ مقتضى المنهج السلفيِّ القائم على نصرة الله وشرعِه بمحاربة البِدَع والضلالات والمنكرات الدخيلة على دِين الله الحنيف، كما لا يُرادُ منه: تصفيةُ خصوماتٍ فرديةٍ أو نزاعاتٍ مَنْصِبيةٍ أو طموحاتٍ رياديةٍ، فضلًا عن أَنْ يكون ثمرةَ مُهاتَرةٍ كلاميةٍ جداليةٍ ذميمةٍ، والحقُّ أنَّ دافِعَها الحرصُ على صفاء المنبع ونقاءِ المَشْرَب، والغيرةُ على الأمَّة مِنَ الانسياب والتِّيه في ظلمات الجهل وغياهب الخرافات، المشتِّتة للجمع والمُضعِفة للقوَّة والمَنَعة، ولن تضع الحربُ العلميةُ أوزارَها إلَّا بعد الفراغ منها هدمًا وتخريبًا، واقتحامِ معاقلها الحصينةِ ردًّا وتعقيبًا، وإقامةِ بناء الحقِّ على أنقاضها تشييدًا وتأسيسًا.

قال الإمام محمَّد البشير الإبراهيمي ـ رحمه الله ـ: «فمَنْ كان يؤرِّخ للطُّرُقية بهذا الوطن [الجزائر] ولاشتدادها فيه وامتدادها منه فلْيَحبِسْ قلمَه؛ فهذه آخرُ صحيفةٍ مِنْ كتابها، ولْيختِمْه بتسجيلِ سنة الوفاة، بإقحامِ سطرِ: ماتت ـ لا رَحِمها الله ـ بين سنةِ كذا وكذا»(١٨).

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٩ جمادى الآخرة ١٤٣٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٧ مارس ٢٠١٨م

 



(١) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٥/ ٤٩١).

(٢) المصدر السابق (١٠/ ٦٨٦).

(٣) المصدر السابق (١١/ ٢٤٥).

(٤) هو أبو القاسم الجُنَيْدُ بن محمَّد بن الجنيد الخزَّاز القواريريُّ. كان متصوِّفًا ومتكلِّمًا. لُقِّبَ ﺑ «سيِّد الطائفة» و«طاووس العلماء». تفقَّه على أبي ثورٍ صاحب الإمام الشافعيِّ، وصَحِبه أبو العبَّاس بنُ سُرَيْجٍ الفقيهُ الشافعيُّ. مِن آثاره: «السرُّ في أنفاس الصوفية»، و«دواء الأرواح»، و«الفَنا». تُوفِّي سنة: (٢٩٧ﻫ أو ٢٩٨ﻫ).

انظر ترجمته في: «طبقات الصوفية» للسلَمي (١٥٥)، «الفهرست» للنديم (٢٣٨)، «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (٧/ ٢٤١)، «الرسالة القشيرية» (١٨)، «الكامل» لابن الأثير (٨/ ٦٢)، «وفيات الأعيان» لابن خلِّكان (١/ ٣٧٣)، «سِيَر أعلام النُّبَلاء» (١٤/ ٦٦) و«دُوَل الإسلام» (١/ ١٨١) كلاهما للذهبي، «مرآة الجنان» لليافعي (٢/ ٢٣١)، «البداية والنهاية» لابن كثير (١١/ ١١٣)، «طبقات الأولياء» لابن الملقِّن (١٢٦)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٢/ ٢٢٨)، «تاريخ التراث العربي» لسزكين (٢/ ٤٥٤)، ومؤلَّفي: «الإعلام» (٦٠).

(٥) «طلائع الصوفية» لأبي العزايم (٩).

(٦) «التصوُّف ـ المنشأ والمصادر» لإحسان إلهي ظهير (٣٣).

(٧) أخرجه ابنُ ماجه في «الفِتَن» باب الصبر على البلاء (٤٠٣٢) مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٦٦٥١).

(٨) «التعرُّف لمذهب أهل التصوُّف» للكلاباذي (٢٥).

(٩) «إحياء علوم الدين» للغزَّالي (٤/ ٢٣٩)، Oقوت القلوب» لأبي طالبٍ المكِّي (١/ ٤٤٣).

(١٠) «الرسالة» للقشيري (١٩).

(١١) «تلبيس إبليس» لابن الجوزي (١٤٧)، بتصرُّف.

(١٢) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١١/ ١٨)، بتصرُّف.

(١٣) المصدر السابق (٨/ ٣٦٩).

(١٤) «اعتقادات فِرَق المسلمين والمشركين» للرازي (١١٥ ـ ١١٧)، بتصرُّف.

(١٥) «منهاج السنَّة النبوية» لابن تيمية (٥/ ٣٣٩)، بتصرف.

(١٦) وذلك في «الصواعق المُرسَلة» (٢/ ٦١٦) إذ يقول: «الوجه التاسع: أنَّ فقهاء الإمامية ـ مِنْ أوَّلهم إلى آخِرهم ـ ينقلون عن أهل البيت أنه لا يقع الطلاقُ المحلوف به، وهذا متواترٌ عندهم عن جعفر بنِ محمَّدٍ وغيرِه مِنْ أهل البيت، وهَبْ أنَّ مكابرًا كذَّبهم كُلَّهم وقال: قد تواطئوا على الكذب عن أهل البيت، ففي القوم فقهاءُ وأصحابُ علمٍ ونظرٍ في اجتهادٍ، وإِنْ كانوا مخطئين مُبتدِعين في أمر الصحابة فلا يُوجِب ذلك الحكمَ عليهم كُلَّهم بالكذب والجهل، وقد روى أصحابُ الصحيح عن جماعةٍ مِنَ الشيعة، وحملوا حديثَهم واحتجَّ به المسلمون، ولم يَزَلِ الفقهاءُ ينقلون خلافَهم ويبحثون معهم، والقومُ وإِنْ أخطأوا في بعض المواضع لم يَلْزَم مِنْ ذلك أَنْ يكون جميعُ ما قالوه خطأً حتَّى يُرَدَّ عليهم، هذا لو انفردوا بذلك عن الأُمَّة، فكيف وقد وافقوا في قولهم مَنْ قد حكينا قولَهُم وغيرَه ممَّنْ لم تقف على قوله؟!!».

فهل هذا الكلامُ مِنِ ابنِ القيم ـ رحمه الله ـ يغيِّر نظرةَ الجهة الوصيَّة تُجاهَ الشيعة فتُخرِجهم مِنْ جملة الطوائف الدخيلة المحذَّر منها والمحارَبة والمضيَّق عليها، إلى رحاب الطوائف المدعَّمة كطائفة الصوفية؟!! فتأمَّلْ.

(١٧) «آثار محمَّد البشير الإبراهيمي» (١/ ١٩٠).

(١٨) المصدر السابق (١/ ٤٠٧).