الأحكام الشرعيَّة فِي الخطابات الإلهيَّة | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م

الأحكام الشرعيَّة فِي الخطابات الإلهيَّة

كُلُّ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الخِطَابَاتِ المُوَجَّهَةِ إِلَيْنَا، وَمَا تَضَمَّنَ مِنْهَا حُكْمًا تَكْلِيفِيًّا فَهُوَ خِطَابُ تَكْلِيفٍ، وَمَا تَضَمَّنَ حُكْمًا(١) وَضْعِيًّا فَهُوَ خِطَابُ وَضْعٍ، وَقَدْ يَتَضَمَّنُ الخِطَابُ الحُكْمَيْنِ مَعًا.

أَمْثِلَةٌ لِذَلِكَ:

ـ فَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ[البقرة: ٤٣؛ وغيرها] (٢): عَرَفْنَا الحُكْمَ الَّذِي هُوَ الإِيجَابُ لِلصَّلَاةِ(٣).

ـ وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓۖ[الإسراء: ٣٢]: عَرَفْنَا الحُكْمَ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ لِلزِّنَا(٤).

ـ وَمِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي العَامِدِ لِلصَّلَاةِ أَنَّهُ: «تُكْتَبُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ، وَتُمْحَى عَنْهُ بِالأُخْرَى سَيِّئَةٌ»(٥): عَرَفْنَا الحُكْمَ الَّذِي هُوَ اسْتِحْبَابُ كَثْرَةِ الخُطَى(٦) إِلَى المَسْجِدِ(٧).

ـ وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا يَأۡتَلِ(٨) أُوْلُواْ ٱلۡفَضۡلِ مِنكُمۡ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤۡتُوٓاْ أُوْلِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ[النور: ٢٢](٩): عَرَفْنَا الحُكْمَ الَّذِي هُوَ كَرَاهَةُ الحَلِفِ عَلَى الاِمْتِنَاعِ مِنَ الصَّدَقَةِ(١٠).

ـ وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ[الجمعة: ١٠]: عَرَفْنَا الحُكْمَ الَّذِي هُوَ الإِذْنُ فِي الاِنْتِشَارِ(١١).

ـ وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ[الإسراء: ٧٨]: عَرَفْنَا الحُكْمَ الَّذِي هُوَ وَضْعُهُ تَعَالَى دُخُولَ الوَقْتِ سَبَبًا لِإِقَامَةِ(١٢) الصَّلَاةِ(١٣).

ـ وَمِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ»(١٤): عَرَفْنَا الحُكْمَ الَّذِي هُوَ وَضْعُهُ تَعَالَى الوُضُوءَ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ(١٥).

ـ وَمِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتِ المَرْأَةُ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟»(١٦): عَرَفْنَا الحُكْمَ الَّذِي هُوَ وَضْعُهُ تَعَالَى الحَيْضَ مَانِعًا مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ(١٧).

ـ وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚ[المائدة: ٦]: عَرَفْنَا الحُكْمَ الَّذِي هُوَ إِيجَابُ الوُضُوءِ، وَعَرَفْنَا الحُكْمَ الَّذِي هُوَ وَضْعُهُ تَعَالَى الوُضُوءَ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ؛ فَاشْتَمَلَ هَذَا الخِطَابُ عَلَى(١٨) الحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ وَالوَضْعِيِّ مَعًا(١٩).

تتميم وتقسيم(٢٠)

يَنْقَسِمُ الحُكْمُ ـ أَيْضًا ـ إِلَى: عَزْمٍ وَتَرْخِيصٍ(٢١).

فَمَا كَانَ حُكْمًا ابْتِدَائِيًّا عَامًّا فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ فَهُوَ عَزْمٌ(٢٢)، وَالفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَ(٢٣) بِهِ يُسَمَّى عَزِيمَةً(٢٤): كَإِيجَابِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَتَحْرِيمِ الخَمْرِ(٢٥).

وَمَا كَانَ حُكْمًا سَهْلًا شُرِعَ بَعْدَ حُكْمٍ صَعْبٍ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ لِأَجْلِ العُذْرِ(٢٦) مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ لِلْحُكْمِ الأَصْلِيِّ(٢٧) فَهُوَ تَرْخِيصٌ، وَالفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ يُسَمَّى: رُخْصَةً(٢٨): كَقَصْرِ الصَّلَاةِ<(٢٩) وَالفِطْرِ فِي السَّفَرِ(٣٠)، وَالمَسْحِ عَلَى الخُفِّ(٣١)، وَإِسَاغَةِ الغُصَّةِ بِالخَمْرِ(٣٢).

تصحيح وإبطال(٣٣)

وَيَنْقَسِمُ(٣٤) ـ أَيْضًا ـ إِلَى: تَصْحِيحٍ وَإِبْطَالٍ.

فَالتَّصْحِيحُ(٣٥): الحُكْمُ بِالصِّحَّةِ فِي العِبَادَاتِ وَعُقُودِ المُعَامَلَاتِ، وَهِيَ: اسْتِيفَاءُ العَقْدِ أَوِ العِبَادَةِ(٣٦) لِلشُّرُوطِ المُعْتَبَرَةِ فِيهِ شَرْعًا(٣٧) وَسَلَامَتُهُ مِنَ المَوَانِعِ، بِحَيْثُ يَقَعُ عَلَى الوَجْهِ المَشْرُوعِ(٣٨)، وَمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الصِّحَّةُ مِنْهُمَا فَهُوَ(٣٩) صَحِيحٌ(٤٠)، وَإِبْطَالُ(٤١) الحُكْمِ لِإِبْطَالِ(٤٢) العَقْدِ أَوِ العِبَادَةِ.

وَالبُطْلَانُ وَالفَسَادُ(٤٣) هُوَ: اخْتِلَالُ العِبَادَةِ(٤٤) أَوِ العَقْدِ لِتَخَلُّفِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، بِحَيْثُ تَكُونُ العِبَادَةُ أَوِ العَقْدُ وَقَعَتْ عَلَى غَيْرِ الوَجْهِ المَشْرُوعِ(٤٥)، وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ الإِبْطَالُ مِنْهُمَا فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ(٤٦) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا(٤٧).

 



(١) «ب»: «منها حكمًا».

(٢) «ب»: «وَرَدَ في آياتٍ كثيرةٍ: أوَّلُها في [البقرة آية: ٤٣]، وآخِرُها في [المزَّمِّل آية: ٢٠]، فهي واردةٌ في ١٦ آيةً».

قلت: أمَّا ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ﴾ بالواو فقَدْ وَرَدَتْ في ثمانية مواضعَ، ووَرَدَتْ بالفاء في ثلاثة مَواضِعَ، وبدونهما في موضعٍ واحدٍ؛ فيكونُ مجموعُ ذلك اثني عشر موضعًا، ووَرَدَتْ بالإفراد في خمسة مَواضِعَ.

(٣) هذه الصيغة: (افْعَلْ، افْعَلُوا) تدلُّ على الطلب الحتميِّ حقيقةً وهو فعلُ الأمر.

وللطلب الجازمِ أساليبُ أخرى:

ـ منها: التصريحُ بلفظ الأمر، مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ[النحل: ٩٠]، وقولِه تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا[النساء: ٥٨].

ـ ومنها: التصريح بلفظِ: «فرض» أو «وجب» أو «كتب»، مثل قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ[البقرة: ١٨٣]، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم : «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الحَجَّ فَحَجُّوا» [أخرجه مسلمٌ (٩/ ١٠٠) برقم: (١٣٣٧) مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه]، و«فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ.. » [أخرجه البخاريُّ (٣/ ٣٦٧) برقم: (١٥٠٣)، ومسلمٌ (٧/ ٥٩) برقم: (٩٨٤)، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما]، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «غُسْلُ يَوْمِ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» [أخرجه البخاريُّ (٢/ ٣٥٧) برقم: (٨٧٩)، ومسلمٌ (٦/ ١٣٢) برقم: (٨٤٦)، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه].

ـ ومنها: المصدر النائب عن فعلِ الأمر، مثل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ[محمَّد: ٤]، أي: اضْرِبُوا الرِّقابَ.

ـ ومنها: الفعل المُضارِعُ المُقْترِنُ بلام الأمر، مثل قوله تعالى: ﴿لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٖ مِّن سَعَتِهِۦۖ[الطلاق: ٧]، أي: أَنْفِقُوا إِنْ كنتم ذوي سَعَةٍ.

ـ ومنها: اسْمُ فعلِ الأمر، مثل قوله تعالى: ﴿عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ[المائدة: ١٠٥]، أي: الْزَموا أَنْفُسَكم.

ـ ومنها: ترتيبُ العقوبةِ على تركِ الفعل، أو الوعيدِ الشديد في الدنيا والآخرة، كقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةً وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» [رواهُ أحمد (٢/ ٣١٢) رقم: (٨٢٧٣)، وابنُ ماجه (٢/ ١٠٤٤) رقم: (٣١٢٣)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع الصغير» (٢/ ١١٠٦) برقم: (٦٤٩٠)].

ـ ومنها: الأسلوب العربيُّ الدالُّ على الطلب الجازم، مثل قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ[آل عمران: ٩٧].

(٤) هذه صيغةُ النهيِ التي تُفيدُ التحريمَ، وهي الفعلُ المُضارِعُ المقرونُ ﺑ «لا» الناهية.

وللتحريم أساليبُ أخرى:

ـ منها: التصريحُ بلفظِ التحريم، مثل قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ[النساء: ٢٣].

ـ ومنها: طَلَبُ اجتنابِ الفعل، مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ[المائدة: ٩٠].

ـ ومنها: الألفاظ الدالَّةُ ـ بصيغةٍ مُشدَّدةٍ ـ على إنكار الفعل، مثل قوله تعالى: ﴿فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ[البقرة: ٢٧٩]، وقولِه تعالى: ﴿وَٱلۡخَٰمِسَةُ أَنَّ لَعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٧...وَٱلۡخَٰمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ ٩[النور].

ـ ومنها: استعمالُ لفظِ: «لا يَحِلُّ»، مثل قوله تعالى: ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرۡهٗاۖ[النساء: ١٩].

ـ ومنها: ترتيبُ العقوبةِ على الفعل سواءٌ في الدنيا أو في الآخرة، مثل قوله تعالى: ﴿فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ[النور: ٤]، وقولِه تعالى: ﴿وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا[النساء: ٩٣].

(٥) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٢/ ٢١٧) مِنْ حديثِ عبد الله بنِ عمر رضي الله عنهما، ولفظه: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ، لَا يَنْزَعُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ؛ لَمْ تَزَلْ رِجْلُهُ اليُسْرَى تَمْحُو سَيِّئَةً، وَتُكْتَبُ الأُخْرَى حَسَنَةٌ، حَتَّى يَدْخُلَ المَسْجِدَ»، والحديث صحيحٌ لغيره، [انظر: «السلسلة الصحيحة» للألباني (٣/ ٢٨٥) رقم: (١٢٩٦)].

(٦) ليس في الحديثِ المذكورِ طَلَبُ الفعلِ مِنْ غيرِ تحتيمٍ، أي: أنَّ الخطاب خالٍ مِنَ القرينة اللفظية أو غيرِ اللفظية الصارفةِ مِنَ الوجوب إلى الندب، وإنما الذي ساقَهُ المُصنِّفُ يُعَدُّ أسلوبًا آخَرَ للاستحباب، وهو الأسلوب العربيُّ الدالُّ على عدَمِ التحتيم، ويمكن التمثيلُ للأمر المُقْترِنِ بقرينةٍ لفظيةٍ أو غيرِ لفظيةٍ صارفةٍ مِنَ الوجوب إلى الندب بقوله تعالى: ﴿إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ[البقرة: ٢٨٢]؛ فالأمرُ بالكتابة خطابٌ بالطلب على غيرِ وجهِ الجزم؛ لأنه قد صَرَفَتْهُ عن مُقْتضاهُ الأصليِّ مِنَ الإيجاب القرينةُ اللاحقةُ في الآية في قوله تعالى: ﴿فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ[البقرة: ٢٨٣]، والمثالُ الآخَرُ: قولُه تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗاۖ[النور: ٣٣]؛ فالأمرُ بالكتابة خطابٌ بالطلب لِيُصْبِحَ العبدُ حُرًّا، لكنَّ هذا الأمرَ ليس للوجوب لوجودِ قرينةٍ مُتَّصِلةٍ بالآية، وهي تعليقُ الكتابةِ على عِلْمِ المالكِ بأنَّ في العبد خيرًا بحيث تَحْسُنُ مُكاتَبتُه، ولوجودِ قرينةٍ أخرى صارفةٍ مُتجسِّدةٍ في قاعدةٍ عامَّةٍ في حقوق الملكية، وهي: «حُرِّيَّةُ تَصَرُّفِ المَالِكِ فِي مِلْكِهِ».

هذا، وللندب أساليبُ أخرى:

ـ منها: ما مَثَّل به المُصنِّفُ، وهو ترتيبُ الأجرِ على الفعل مِنْ غيرِ أمرٍ به ولا ترتيبِ العقوبة على تَرْكِه، ومثالُه: قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم : «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» [أخرجه مسلمٌ (٨/ ٥٦) رقم: (١١٦٤) مِنْ حديثِ أبي أيُّوب الأنصاريِّ رضي الله عنه].

ـ ومنها: ورودُ لفظِ الندب أو السنَّةِ صراحةً.

ـ ومنها ـ أيضًا ـ: عدَمُ ترتيبِ الوعيدِ أو العقوبة على الترك كقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ»، وفي لفظٍ لغيرِ أحمد: «... كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» [أخرجه أحمد (٢/ ١٠٨) رقم: (٥٨٦٦) وغيرُه مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما، وله شواهدُ أخرى. انظر: «إرواء الغليل» (٣/ ٩) برقم: (٥٦٤) و«صحيح الجامع الصغير» (٢/ ١٤٦) برقم: (١٨٨٥، ١٨٨٦) كلاهما للألباني].

(٧) «أ»: «المساجد».

قلت: هذا الاستحبابُ مُقيَّدٌ بالمسجد الذي يَليهِ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الأَبْعَدُ فَالأَبْعَدُ مِنَ المَسْجِدِ أَعْظَمُ أَجْرًا» [أخرجه أبو داود (١/ ٣٧٧) رقم: (٥٥٦)، وابنُ ماجه (١/ ٢٥٧) رقم: (٧٨٢). وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه]. أمَّا إكثارُ الخطوات إلى غيرِه مِنَ المساجد فقَدْ وَرَدَ النهيُ عنه على ما ثَبَتَ مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لِيُصَلِّ الرَّجُلُ فِي المَسْجِدِ الَّذِي يَلِيهِ، وَلَا يَتَّبِعِ المَسَاجِدَ» [الحديث صَحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٥/ ٢٣٤) برقم: (٢٢٠٠)، وفي «صحيح الجامع الصغير» (٢/ ٩٥٩) برقم: (٥٤٥٦)]. وتظهر عِلَّةُ النهي في كونه ذريعةً إلى هَجْرِ المسجد الذي يَليهِ، وإيحاشِ صَدْرِ الإمام، أمَّا إذا كان الإمامُ لا يُتِمُّ الصلاةَ، أو يُرْمَى ببدعةٍ أو يُعْلِنُ بفجورٍ فلا بأسَ بتَخَطِّي مسجدِه إلى غيره، كذا ذَكَرَهُ ابنُ القيِّم في مَعْرِضِ إيرادِ الأدلَّة على «مَنْعِ فِعْلِ مَا يُؤَدِّي إِلَى حَرَامٍ وَلَوْ كَانَ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ»، [انظر: «إعلام المُوقِّعين» لابن القيِّم (٣/ ١٤٨)].

هذا، والمندوب أو المُسْتَحَبُّ ـ وإِنْ كان يجوز تَرْكُه ـ لكِنْ لا يجوز اعتقادُ تَرْكِ استحبابه.

(٨) مِنَ «الأَلِيَّةِ»: وهي الحَلِف واليمين، [انظر: «تفسير ابنِ كثير» (٣/ ٢٧٥)].

(٩) ومعنى الآية: «لا تحلفوا أَنْ لا تَصِلُوا قَراباتِكم المساكينَ والمُهاجِرينَ». وهذه الآيةُ نَزَلَتْ في أبي بكرٍ الصدِّيقِ رضي الله عنه حين حَلَفَ أَنْ لا ينفع ابنَ خالتِه «مِسْطَحَ بْنَ أُثَاثَةَ» بنافعةٍ أبدًا بعدما قال في عائشة رضي الله عنها ما قال في حادثة الإفك، فبَعْدَ نزولِ براءتها وتوبةِ الله على مَنْ تَكلَّمَ مِنَ المؤمنين وإقامةِ الحدِّ على مَنْ أُقيمَ عليه، جاءَ القرآنُ يَعْطِفُ الصدِّيقَ على قريبه ونَسِيبه إِذْ كان مِنَ المُهاجِرين في سبيل الله ومسكينًا لا مالَ له، وزَلِقَ زَلْقةً تابَ اللهُ تعالى عليه منها، والآيةُ في غايةِ العطف والترفُّق على صِلَةِ الأرحام، و«العِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ» [انظر: المصدر السابق بتصرُّف].

(١٠) وللكراهة أسلوبٌ آخَرُ مُسْتَعمَلٌ مُتمثِّلٌ في اللفظ الصريح بالكراهة، مثل قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» [أخرجه البخاريُّ (٣/ ٣٤٠) رقم: (١٤٧٧)، ومسلمٌ (١٢/ ١٢) رقم: (٥٩٣)، مِنْ حديثِ المُغيرةِ بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه]، وقد تَقدَّمَ التنبيهُ على إطلاق لفظِ: «المكروه» على «الحرام»، وخاصَّةً في كلام السلف.

(١١) هذا المثالُ الذي ساقَهُ المُصنِّفُ هو أحَدُ أساليبِ الإباحة، المُتمثِّلُ في الأمر بالفعل مع القرينة الدالَّة على الإباحة، ومثالُه: قولُه تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ [البقرة: ١٨٧؛ الأعراف: ٣١]، أمَّا مثالُ النصِّ الصريح على التخيير وإباحةِ الفعل ففي قوله صلَّى الله عليه وسلَّم حين سُئِلَ عن الوضوء مِنْ لحم الغنم قال: «إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأْ» [تقدَّم تخريجه].

وللإباحة أساليبُ أخرى:

ـ منها: التنصيص على حِلِّ الفعل، مثل قوله تعالى: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُۖ[المائدة: ٥].

ـ ومنها: التنصيص على نفيِ الجُناح والحَرَج، مثل قوله تعالى في جوازِ تَرْكِ الأعمى ونحوِه للجهاد: ﴿لَّيۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجٞ...[الفتح: ١٧]، وقولِه تعالى في إباحةِ التعريض للمتوفَّى عنها زوجُها بالخِطْبة أثناءَ العِدَّة: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا عَرَّضۡتُم بِهِۦ مِنۡ خِطۡبَةِ ٱلنِّسَآءِ[البقرة: ٢٣٥].

واعْلَمْ أنَّ اللفظ الدالَّ على التخيير بين الفعل والترك لا يدلُّ على التسوية بين الطرفين؛ فالمسافرُ ـ مثلًا ـ مُخيَّرٌ بين الصوم والفطر، وهو والمرأةُ مخيَّران بين الجمعة والظهر مع اختلافِ العُلَماءِ في الأفضلية، وإذا كان الأمرُ كذلك لم يصحَّ الاحتجاجُ على التسوية بين الطرفين بالتخيير.

(١٢) «ب»: «في إقامةِ».

(١٣) ودخولُ الوقت ـ وإِنْ كان سببًا ـ فهو شرطُ وجوبٍ؛ لكونه مِنْ خطاب الوضع، والآيةُ تصلح مثالًا للحكمين التكليفيِّ والوضعيِّ.

(١٤) أخرجه ـ بهذا اللفظ ـ البخاريُّ (١٢/ ٣٢٩) رقم: (٦٩٥٤)، ورواهُ البخاريُّ (١/ ٢٣٤) رقم: (١٣٥)، ومسلمٌ (٣/ ١٠٤) رقم: (٢٢٥)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ .. » بالضمِّ على البناء لِمَا لم يُسَمَّ فاعِلُه، وتمامُ الحديثِ عند البخاريِّ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ: «مَا الحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟» قَالَ: «فُسَاءٌ أو ضُرَاطٌ».

(١٥) والوضوءُ شرطُ صِحَّةٍ لكونه مِنْ خطاب التكليف.

(١٦) جزءٌ مِنْ حديثٍ مُتَّفَقٍ عليه: أخرجه البخاريُّ (١/ ٤٠٥) رقم: (٣٠٤)، ومسلمٌ (٢/ ٦٥) رقم: (٧٩)، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه، واللفظُ لابن خزيمة (٢٠٤٥)، والبيهقيِّ في «الكبرى» (١٤٧٤)، ولفظُ البخاريِّ دون لفظةِ: «المرأة».

(١٧) قد يَلْتَبِسُ عدَمُ المانعِ بالشرط كثيرًا، وسببُ الْتباسِهما مِنْ جهةِ أنَّ كُلًّا مِنَ الشرط وعدَمِ المانع لا يَلْزَمُ مِنْ وجودِهما وجودُ الحكم ولا عدَمُه، ويَلْزَمُ مِنْ عدَمِهما عدَمُ الحكم. وضابِطُ الفرقِ بينهما أنَّ الشرط وصفٌ وجوديٌّ وعدَمَ المانعِ وصفٌ عدميٌّ.

(١٨) «أ»: «هذا على».

(١٩) لكنَّ الوضوء يدخل تحت قدرة المُكلَّف، ويجب عليه تحصيلُه، بخلافِ دلوك الشمس.

(٢٠) والظاهر أنه تَتْميمُ الحكمِ الوضعيِّ باعتبارِ أنَّ الرخصة والعزيمة مِنْ أقسامه، وهو مذهبُ الجمهور، وبه قال الغزَّاليُّ والآمديُّ وابنُ قُدامةَ والشاطبيُّ وغيرُهم؛ ذلك لأنَّ العزيمة ـ مِنْ حيث الحقيقةُ ـ هي جَعْلُ الشارعِ الأحوالَ العادية للمكلَّفين سببًا لبقاءِ الأحكام الأصلية واستمرارِها في حقِّهم، أمَّا الرخصةُ فهي ـ في الحقيقة ـ وَضْعُ الشارعِ وصفًا مُعيَّنًا سببًا في التخفيف، والسببُ مُعْتَبَرٌ، وهو مِنَ الأحكام الوضعية، خلافًا لمَنْ عَدَّهما مِنْ أقسام الحكم التكليفيِّ، وبه قال ابنُ الحاجب والزركشيُّ وابنُ السبكيِّ وغيرُهم؛ لكونِ العزيمةِ تحمل معنى الاقتضاء، والرخصةِ تحمل معنى التخيير؛ فهُمَا مِنْ صفات الأحكام التكليفية؛ إذ الطلبُ والإباحةُ كلاهما حكمٌ تكليفيٌّ.

هذا، واعتبارُهما مِنَ الحكم الوضعيِّ أَوْلَى وأقوى مِنْ جهةِ أنَّ السفر والمرض والمَشَقَّةَ والضرورة لا طَلَبَ فيها ولا تخييرَ، وإنما هي أسبابٌ للترخُّص أو مانعةٌ مِنَ التكليف بحكم العزيمة، وهذه ـ ولا شكَّ ـ معدودةٌ مِنَ الحكم الوضعيِّ دون التكليفيِّ، والخلافُ لفظيٌّ راجعٌ لاختلاف المنظور إليه (الرخصة والعزيمة)، ولا تترتَّبُ عليه آثارٌ فقهيةٌ.

(٢١) المُصنِّفُ جَرَى على عادةِ الأصوليِّين التي سَلَكها في الحكمين التكليفيِّ والوضعيِّ؛ فقَدْ فَرَّق في هذا الموضع والذي يَليهِ بين العزم والعزيمة، والترخيصِ والرخصة، والتصحيحِ والصحيح، والإبطالِ والباطل، ويتجلَّى مِنْ نصِّ المُصنِّفِ أنه جَعَلَ العزيمةَ والرخصةَ والصحيحَ والباطلَ مِنْ أقسام الفعل لا مِنْ أقسام الحكم، بينما جَعَلَ العزمَ والترخيصَ والتصحيحَ والإبطالَ مِنْ أقسام الحكم، أمَّا الصحَّةُ فهي اسْمُ مصدرٍ للتصحيح، وهي نَفْسُ استيفاءِ الشروط والأركان، وأمَّا البطلانُ فهو ـ أيضًا ـ اسْمُ مصدرٍ للإبطال، وهو نَفْسُ اختلالِ الشروط والأركان.

(٢٢) ذَكَرَ المُصنِّفُ نوعًا واحدًا مِنَ العزيمة الذي يَغْلِبُ في الأحكام، وهو ما شُرِعَ ابتداءً مِنْ أوَّلِ الأمر لصالحِ المُكَلَّفين عامَّةً كالعبادات والمُعامَلات والجنايات، وكُلُّ الأحكام التي تُحقِّقُ المَصالِحَ في الدنيا والآخرة.

ومِنَ الأنواع التي تدخل في العزيمة ـ أيضًا ـ: الأحكامُ التي شُرِعَتْ ناسخةً لأحكامٍ سابقةٍ؛ فيُصْبِحُ الحكمُ الناسخُ هو العزيمةَ، ويرتفع حكمُ المنسوخ: كنَسْخِ استقبالِ بيتِ المقدس، وتحريمِ زيارةِ القبور وغيرِها.

كما يدخل في العزيمة: المُسْتثنَياتُ مِنْ أمرٍ عامٍّ محكومٍ فيه، كتحريمِ الله تعالى أَنْ يأخذ الزوجُ شيئًا ممَّا دَفَعَهُ إلى أهله، ثمَّ استثنى أَخْذَ المالِ مِنَ المرأةِ على سبيلِ فَسْخِ الزواجِ بينهما وهو الخُلْعُ، وذلك عند انعدامِ الوفاءِ بينهما واحتمالِ انتهاكِ حُرُماتِ الله تعالى كما في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ شَيۡ‍ًٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ[البقرة: ٢٢٩].

ويدخل في العزيمة ـ أيضًا ـ: تلك الأحكامُ التي شُرِعَتْ لسببٍ طارئٍ اقتضى مشروعيَّتَه، كحرمةِ سَبِّ الأوثان والطواغيتِ التي تُعْبَدُ مِنْ دونِ الله تعالى؛ لكونه ذريعةً إلى سَبِّ الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ[الأنعام: ١٠٨].

(٢٣) «ب»: «تعالى»، وهو تصحيفٌ ظاهرٌ.

(٢٤) فالعزيمة ـ إذن ـ هي: «الحُكْمُ الثَّابِتُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ خَالٍ مِنْ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ»، ومعنى ذلك: أنه لا يجوز تَرْكُ العملِ بما ثَبَتَ بالدليل الشرعيِّ إلَّا إذا وُجِدَ مُعارِضٌ أقوى مِمَّا ثَبَتَ بالدليل الشرعيِّ، وفي حالةِ وجودِه تَعَيَّنَ العملُ به وتَرْكُ ما ثَبَتَ بالدليل الشرعيِّ، وهو ما يُسمَّى بالرخصة.

(٢٥) جميعُ الأحكامِ الشرعية التكليفيةِ تُعَدُّ عزائمَ لله تعالى، وقد مثَّل المُصنِّفُ للإيجاب والتحريم.

(٢٦) العذرُ أَعَمُّ مِنَ الضرورة والحاجة والمَشَقَّة، وذِكْرُه ـ هاهنا ـ احترازٌ مِمَّا يَثْبُتُ للابتلاء والاختبار لا للعذر كالتكاليف الشرعية؛ إذ الأصلُ عدَمُ التكاليف، وما وَرَدَ مِنَ التكليف بها لا يُسمَّى رخصةً، واحترازٌ ـ أيضًا ـ مِنَ الأحكام التي تَثْبُتُ لمانعٍ لا لعذرٍ، كوجوبِ تركِ الصلاة على الحائض والنُّفَساء مثلًا؛ فلا يُسمَّى رخصةً بل عزيمةً؛ ذلك لأنَّ مانِعَ الحيضِ والنِّفاس يرفع التكليفَ مع إمكان اجتماعه به عقلًا، لكِنْ لا يجتمع معه شرعًا، وإنما يمنع وجودَه أصلًا، بخلافِ العذر فيَجتمعُ مع المشروع كاجتماعِ السفر والمرض مع الصوم، وهو ضابطُ الفرقِ بينهما.

(٢٧) احترز به المُصنِّفُ عن الحكم المنسوخ لزوالِ سبَبِه، ولأنه ـ وإِنْ نُسِخَ الأثقلُ بالأخَفِّ ـ إلَّا أنَّ عِلَّةَ الحكمِ الأصليِّ قد زالَتْ، كوجوب المُصابَرةِ في القتال ـ كما سيأتي ـ.

(٢٨) وهي: «الحُكْمُ الثَّابِتُ لِلْمَعْذُورِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ».

(٢٩) وقد جَعَلَ بعضُ العُلَماء القصرَ عزيمةً وليست رخصةً للأحاديثِ المُصرِّحةِ بما يقتضي وجوبَ القصر لحديثِ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» [أخرجه مسلمٌ (٥/ ١٩٦) رقم: (٦٨٦) مِنْ حديثِ عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه]، ولِما أخرجه البخاريُّ (٢/ ٥٦٩) رقم: (١٠٩٠)، ومسلمٌ (٥/ ١٩٤) رقم: (٦٨٥)، مِنْ قولِ عائشة رضي الله عنها: «إِنَّ الصَّلَاةَ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ؛ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ الحَضَرِ»، وما أخرجه النسائيُّ (٣/ ١١١) رقم: (١٤٢٠)، وابنُ ماجه (١/ ٣٣٨) رقم: (١٠٦٣)، مِنْ حديثِ عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه: «.. وَصَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم»، والخلافُ في اعتبارِ القصر عزيمةً أو رخصةً تتفرَّعُ عليه مسألةٌ في سفر المعصية؛ فمَنْ قال: إنَّ القصر عزيمةٌ فلا فَرْقَ عنده بين المُطيع والعاصي، بل هي مشروعةٌ لهما كما أنَّ الله شَرَعَ للمُقيمِ صلاةَ التمامِ مِنْ غيرِ فَرْقٍ بينهما بلا خلافٍ، ومَنْ رأى أنها رخصةٌ قال: «الرُّخَصُ لَا تُنَاطُ بِالمَعَاصِي». وعليه، فإذا ما اعْتُبِرَتْ عزيمةً كانَتْ خارجةً عن تمثيل المُصنِّف، وإلَّا فهي رخصةٌ واجبةٌ بالنصوص السابقة.

(٣٠) «أ»: «في الصوم».

(٣١) مثَّل المُصنِّفُ للرخصة المُباحةِ بالفطر في السفر والمسحِ على الخفِّ، وللرخصة الواجبة بإساغةِ الغُصَّة بالخمر.

(٣٢) إساغةُ الغُصَّة بالخمر رخصةٌ واجبةٌ بالقياس على المُضطرِّ لأكلِ المَيْتةِ الثابتِ بالنصِّ؛ لقوله تعالى: ﴿فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِي مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٣[المائدة]، وقولِه: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ[الأنعام: ١١٩]؛ فكان هذا الحكمُ داخلًا في قاعدةِ: «الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ المَحْظُورَاتِ» الواجبِ تقييدُها بقاعدةِ: «الضَّرُورَاتُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا»، والفرقُ بين المثالِ الأوَّلِ والأخير ـ وإِنِ اشتركَا في كونهما مِنَ الرخصةِ الواجبةِ على التسليم بأنَّ القصر رخصةٌ ـ: أنَّ الأوَّل ثابتٌ بالنصِّ والآخَرَ ثابتٌ تقعيدًا مِنْ باب القياس.

والمُصنِّفُ أشارَ للرخصة الواجبة بهذا المثالِ الذي هو أَكْلُ المَيْتة للمُضطرِّ.

علمًا أنَّ الرخصة قد تكون مُباحةً كالجمع بين الصلاتين في غيرِ عَرَفَةَ ومُزْدَلِفةَ عند الجمهور، خلافًا للأحناف الذين يمنعون الجمع إلَّا في عَرَفةَ ومُزْدَلِفَةَ.

وقد تكون مكروهةً أو خلافَ الأَوْلى، كالنطق بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان؛ فيجوزُ النطقُ مع الكراهة، وإِنْ صَبَرَ فهو أَوْلى له، ومِنْ هنا يُعْلَمُ أنَّ الرخصة لا تكون محرَّمةً؛ لأنَّ الشرع لا يأمر بمحرَّمٍ أصلًا.

(٣٣) وكذلك الصحَّةُ والفساد؛ فاعتبارُهما مِنَ الحكم الوضعيِّ هو مذهبُ الجمهور؛ ذلك لأنَّ الحكم بصحَّة العبادة وبطلانِها لا يُفْهَمُ منه الاقتضاءُ والتخيير؛ إذ الفعلُ إذا توفَّرَتْ فيه أركانُه وتحقَّقَتْ شروطُه يُوصَفُ بالصحَّة، وتترتَّب عليه الآثارُ تبعًا له، وكذلك إذا ما انْتَفَتْ بعضُ الأركانِ والشروط أو لم تُسْتَوْفَ فإنه يُوصَفُ بالفساد؛ فلا تترتَّبُ عليه آثارُه.

وبناءً على ذلك: فإنَّ توفُّرَ الأسباب والشروطِ مَعانٍ تدخل في خطاب الوضع حقيقةً، خلافًا لمَنْ عَدَّها مِنَ الأحكام التكليفية مضمونًا ومدلولًا، حيث إنَّ معنى صحَّةِ الشيء: جوازُ الانتفاعِ به، ومعنى فسادِ الشيء: حُرْمَةُ الانتفاعِ به، والجوازُ والحرمةُ مِنَ الأحكام التكليفية، وبه قال الرازيُّ والبيضاويُّ وغيرُهما، وجَعْلُه مِنْ أقسامِ الحكمِ الوضعيِّ أَوْلَى لانتفاءِ الاقتضاء والتخيير، والقولُ بإباحة الانتفاعِ منقوضٌ بالمَبيعِ إذا كان قابلًا للإبطال وهو في خيارِ البائع؛ فهو صحيحٌ ولا يُباحُ للمشتري الانتفاعُ به.

ويجدر التنبيهُ إلى أنَّ الاختلاف في هذه المسألةِ إنما هو في اللفظِ والتعبير والمنهج، ولا أثرَ له في الفروع.

(٣٤) «ب»: «تقسيمٌ».

(٣٥) «أ»: «التصحيح».

(٣٦) «أ»: «والعبادات».

(٣٧) «ب»: «بالشروط شرعًا».

(٣٨) المُرادُ بالصحَّة في العبادات: «مَا أَجْزَأَ وَأَسْقَطَ القَضَاءَ»، ولا تكون مُجْزِئةً ومُسْقِطةً للقضاء إلَّا إذا كانَتْ مُوافِقةً لأمر الشارع.

أمَّا في المُعامَلات فهي: «تَرَتُّبُ الأَثَرِ المَقْصُودِ مِنَ المُعَامَلَةِ»، أي: ثمرتِه المطلوبةِ منه.

(٣٩) «ب»: «الصحَّة فهو».

(٤٠) «أ»: «منهما صحيحٌ».

(٤١) «ب»: «والإبطال».

(٤٢) «ب»: «ببطلان».

(٤٣) الفساد بمَعْنَى البطلان، وهُما مُترادِفان عند الجمهور، ويُقابِلان الصِّحَّةَ الشرعية، سواءٌ في العبادات أو في المعاملات، خلافًا للأحناف الذين يَرَوْن أنَّ الفاسد والباطل مُترادِفان في باب العبادات والنكاح مِنَ العقود، أمَّا في باب المُعامَلات فإنه يُوجَدُ فَرْقٌ بين الباطل والفاسد؛ فالفساد يُغايِرُ البطلانَ؛ فهو مَرْتبةٌ بين الصحَّة والبطلان، وهي مشروعةُ الأصلِ دون الوصف، بينما البطلانُ غيرُ مشروعٍ بأصله ووَصْفِه، وسببُ اختلافِهم يرجع إلى التفريق بين الركن والشرط، وإلى النظر إلى مقتضى النهي؛ حيث إنَّ الحنفية يَرَوْنَ أنَّ النهي إِنْ وَرَدَ على ذاتِ الأمر وحقيقتِه فهو باطلٌ، وإِنْ وَرَدَ على وصفٍ في الأمر مع مشروعيةِ الأصل فهو فاسدٌ: كالبيع مع الزيادة الرِّبوية؛ فالبيعُ مشروعٌ والنهيُ وَرَدَ على الوصف الزائد، وكذلك الركنُ إذا اختلَّ فالعقدُ باطلٌ باتِّفاق العلماء، بخلافِ الشرط، فالعقدُ ـ باختلالِ شرطِه ـ باطلٌ عند الجمهور، أمَّا عند الأحناف فالعقدُ فاسدٌ لكونِ الخلل واقعًا في وصفٍ خارجٍ عن ماهيَّة الشيء، بخلافِ الركن فداخلٌ فيها.

(٤٤) وهذا الاختلال في العبادة بالنظر لعدَمِ مُوافَقةِ الأمر الشرعيِّ يُؤدِّي إلى عدَمِ الإجزاء وعدَمِ سقوط القضاء، وفي المُعامَلات يُؤدِّي إلى عدَمِ ترتُّب الأثرِ المقصود مِنَ العقد.

(٤٥) «ب»: «وجهٍ مشروعٍ».

(٤٦) أخرجه مسلمٌ بهذا اللفظ (١٢/ ١٦) رقم: (١٧١٨)، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها. وقَدِ اتَّفق الشيخان على إخراجه بلفظ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» أخرجه البخاريُّ (٥/ ٣٠١) رقم: (٢٦٩٧)، ومسلمٌ (١٢/ ١٦) رقم: (١٧١٨).

(٤٧) هي أُمُّ المؤمنين عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ الصدِّيق القُرَشيةُ التيميةُ المكِّيَّةُ، زوجُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمُّها أمُّ رومان بنتُ عامرِ بنِ عُوَيْمِرٍ الكِنانيةُ، تُكنَّى أمَّ عبد الله بابنِ أختِها أسماءَ رضي الله عنهما، وُلِدَتْ بعد المبعث بأربعِ سنين أو خمسٍ، وتَزوَّجها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهي بنتُ ستٍّ مُكْتَمِلةٍ وداخلةٌ في السابعة، وكانت بِنْتَ تسعٍ حين دَخَلَ بها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وذلك في شوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الأولى للهجرة، ولم يَنْكِحْ بكرًا غيرها، ومِنْ أخَصِّ مَناقِبِها ما عُلِمَ مِنْ شيوع تخصيص النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لها وحُبِّه لها، ونزولِ القرآن في عُذْرِها وبراءتها والتنويهِ بقَدْرِها، ووفاةِ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم عندها، ونزولِ الوحي في بيتها، وهي أَفْقَهُ نساءِ الأُمَّة على الإطلاق، ومِنْ أَفْقَهِ الصحابة وأَكْثَرِهم فُتْيَا وروايةً. تُوُفِّيَتْ رضي الله عنها لسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رمضان مِنْ سنة (٥٧ﻫ)، وصَلَّى عليها أبو هريرة، ودُفِنَتْ بالبقيع في زمنِ خلافة مُعاويةَ بنِ أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين.

[انظر مَصادِرَ ترجمتها في مؤلَّفنا: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (١٧٩) (ط.١)].