Skip to Content
الخميس 18 رمضان 1445 هـ الموافق لـ 28 مارس 2024 م

الكلمة الشهرية رقم: ١٣٥

تقديمُ الشيخِ محمَّد البشير الإبراهيميِّ ـ رحمه الله ـ
على «العقائد الإسلاميَّة
مِنَ الآياتِ القرآنيَّة والأحاديثِ النبويَّة»
للأستاذ الإمام عبدِ الحميدِ بنِ باديسَ ـ رحمه الله ـ

[تحقيق وتعليق وتوجيه: الشيخ محمَّد علي فركوس]

[الحلقة التاسعة والأخيرة]

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فقَدْ تابع الشيخ محمَّد البشير الإبراهيمي ـ رحمه الله ـ كلامَه فقال:

«وَأَمَّا مَغْرِبُنَا هَذَا مَعَ الْأَنْدَلُسِ فَلَمْ يَتَّسِعْ فِيهِ عِلْمُ(١) الْكَلَامِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، وَإِنْ كَانُوا يُدَرِّسُونَهُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَيُقَلِّدُونَهُ وَيَدِينُونَ بِاتِّبَاعِ رَأْيِ الْأَشْعَرِيِّ(٢)، وَلَمْ يُؤَلِّفُوا فِيهِ كِتَابًا [ذَا بَالٍ](٣) إِلَّا الْإِمَامَ مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ السَّنُوسِيَّ التِّلِمْسَانِيَّ(٤)، فَإِنَّهُ أَلَّفَ فِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَشَارِقَةِ عِدَّةَ كُتُبٍ شَاعَتْ وَانْتَشَرَتْ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَقُرِّرَتْ فِي أَكْبَرِ الْمَعَاهِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَالْأَزْهَرِ.

حَتَّى جَاءَتْ دُرُوسُ الْإِمَامِ ابْنِ بَادِيسَ فَأَحْيَا بِهَا طَرِيقَ السَّلَفِ فِي دُرُوسِهِ ـ وَمِنْهَا هَذِهِ الدُّرُوسُ ـ وَأَكْمَلَتْهَا جَمْعِيَّةُ الْعُلَمَاءِ؛ فَمِنْ مَبَادِئِهَا الَّتِي عَمِلَتْ لَهَا بِالْفِعْلِ: لُزُومُ الرُّجُوعِ إِلَى الْقُرْآنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَا سِيَّمَا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَوْحِيدِ اللهِ؛ فَإِنَّ الطَّرِيقَةَ الْمُثْلَى فِي(٥) الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَرْجِعُ إِلَى الْغَيْبِيَّاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا اسْتَنَدَ فِي تَوْحِيدِ اللهِ وَإِثْبَاتِ مَا ثَبَتَ لَهُ وَنَفْيِ مَا انْتَفَى عَنْهُ؛ لَا يَكُونُ إِلَّا بِآيَةٍ قُرْآنِيَّةٍ مُحْكَمَةٍ(٦)؛ فَالْمُؤْمِنُ إِذَا سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ الْمُخَالَفَةَ فِي شَأْنٍ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ أَوْ صِفَاتِ اللهِ فَإِنَّهَا لَا تُسَوِّلُ لَهُ مُخَالَفَةَ الْقُرْآنِ.

وَقَدْ سَلَكَ عُلَمَاءُ جَمْعِيَّةِ الْعُلَمَاءِ ـ فِي دُرُوسِهِمُ الدِّينِيَّةِ كُلِّهَا وَخُطَبِهِمُ الْجُمُعِيَّةِ ـ طَرِيقَةَ الْإِمَامِ ابْنِ بَادِيسَ؛ فَرَجَعَ سُلْطَانُ الْقُرْآنِ عَلَى النُّفُوسِ(٧).

فَجَزَى اللهُ أَخَانَا ابْنَ بَادِيسَ عَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرَ الْجَزَاءِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَحْيَا الْقُرْآنَ فَقَدْ أَحْيَا الدِّينَ كُلَّهُ، وَجَزَى اللهُ إِخْوَانَهُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا طَرِيقَتَهُ تَوْفِيقًا لِلْعَمَلِ يُسَاوِي تَوْفِيقَهُمْ فِي الْعِلْمِ، وَجَزَى اللهُ تَلَامِذَتَهُ الَّذِينَ قَامُوا بِحَمْلِ الْأَمَانَةِ مِنْ بَعْدِهِ.

وَهَذِهِ دُرُوسٌ مِنْ دُرُوسِهِ يَنْشُرُهَا الْيَوْمَ ـ فِي أَصْلِ الْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِدَلَائِلِهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ـ الْأُسْتَاذُ: مُحَمَّدُ الصَّالِحُ رَمَضَانُ، أَحَدُ طُلَّابِهِ؛ فَجَاءَتْ عَقِيدَةً مُثْلَى يَتَعَلَّمُهَا الطَّالِبُ فَيَأْتِي مِنْهُ مُسْلِمٌ سَلَفِيٌّ مُوَحِّدٌ لِرَبِّهِ بِدَلَائِلِ الْقُرْآنِ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ السَّلَفِيُّ، وَيَسْتَدِلُّ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ فِي رَبِّهِ بِآيَةٍ مِنْ كَلَامِ رَبِّهِ.

فَنَحُثُّ الْقَائِمِينَ عَلَى تَعْلِيمِ نَاشِئَتِنَا فِي الْمَدَارِسِ الْحُرَّةِ أَوِ الْحُكُومِيَّةِ، فِي الْجَزَائِرِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَقْطَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ، عَلَى اتِّخَاذِهَا أَسَاسًا فِي تَرْبِيَتِهِمْ عَلَى التَّوْحِيدِ الصَّحِيحِ، بَلْ نَحُثُّ كُلَّ أَبٍ مُسْلِمٍ أَنْ يَقْتَنِيَهَا لِأَوْلَادِهِ، وَيَحُثَّهُمْ عَلَى تَعَلُّمِهَا وَتَفَهُّمِهَا، وَأَنْ يَشْتَرِكَ أَهْلُ الْبَيْتِ كُلُّهُمْ فِي ذَلِكَ؛ فَكُلُّهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهَا.

وَفَّقَنَا اللهُ جَمِيعًا لِاتِّبَاعِ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِمَا(٨) وَإِلَى هَدْيِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي تَبْيِينِ مَعَانِيهِمَا.

[مُحَمَّدُ البَشِيرُ الْإِبْرَاهِيمِيُّ]»

 



(١) كلمةُ: «عِلم» ساقطةٌ مِنْ «م.ر.ش».

(٢) أمَّا بلاد المغرب الإسلاميِّ فقَدْ كانت على التَّوحيد والسُّنَّة، تَدِين بمذهب السَّلف في الاعتقاد حوالَيْ خمسةِ قرونٍ، بعيدةً كُلَّ البعد عن مذهب الأشاعرة والمذاهبِ العَقَديَّة الأخرى؛ فقَدْ وَصَف عبد الواحد المَرَّاكُشيُّ ـ رحمه الله ـ زمنَ المُرابِطين السُّنِّيِّين السَّلفيِّين في [«المُعجِب في تلخيص أخبار المغرب» (٢٥٥)] بقوله: «وقرَّر الفقهاءُ عند أمير المسلمين [هذا لقبُ أميرِ المُرابِطين، والمقصود ـ هنا ـ هو: أبو الحسن عليُّ بنُ يوسف بنِ تاشفين] تقبيحَ عِلمِ الكلام، وكراهةَ السَّلفِ له، وهَجْرَهم مَنْ ظَهَر عليه شيءٌ منه، وأنَّه بدعةٌ في الدِّين، وربَّما أدَّى أكثرُه إلى اختلافٍ في العقائد، في أشباهٍ لهذه الأقوال، حتَّى استحكم في نفسِه بُغْضُ عِلم الكلام وأهلِه، فكان يُكتَبُ عنه في كُلِّ وقتٍ إلى البلاد بالتَّشديد في نبذ الخوض في شيءٍ منه، وتوعَّد مَنْ وُجِد عنده شيءٌ مِنْ كُتُبه».

هكذا كان أهلُ المغرب الإسلاميِّ على الهُدى ودِينِ الحقِّ، مُتمسِّكين بمذهب السَّلف، وبَقِيَتْ بلادُهم سالمةً مِنْ عِلم الكلام، وبمَعزِلٍ عن اتِّباع الأشاعرة في تأويلِ آياتِ الصفات وأحاديثِها، اقتداءً بالسَّلف في وجوب الإيمان بمَعانِيها لأنها مُحكَمةٌ، وردِّ عِلمِ كيفيَّاتها إلى الله دون تأويلٍ، إلى أَنْ ظَهَر أبو ذَرٍّ الهَرَويُّ (ت: ٤٣٤ﻫ)، الذي أخَذ طريقةَ الباقلَّانيِّ (ت: ٤٠٣ﻫ)، وكان أبو ذَرٍّ أوَّلَ مَنْ نَقَل عِلمَ الكلام مِنَ المشرق إلى بلاد الحرم والمغرب، وكان يرحل مِنْ أهل المغرب مَنْ يرحل إلى المشرق للحجِّ أو لغيره، فيجتمعون به فيأخذون عنه الحديثَ وهذه الطريقةَ ويدلُّهُم على أصلها، على نحوِ ما أخَذه أبو الوليد الباجيُّ (ت: ٤٧٤ﻫ)، ثمَّ رَحَل ـ بعدها ـ إلى العراق، فأخَذَ طريقةَ الباقلَّانيِّ عن أبي جعفرٍ السِّمنانيِّ الحنفيِّ (ت: ٤٤٤ﻫ) صاحبِ الباقلَّانيِّ؛ كما رَحَل بعده القاضي أبو بكر بنُ العربيِّ (ت: ٥٤٣)، فأخَذَ طريقةَ أبي المَعالي (ت: ٤٧٨ﻫ) في «الإرشاد» [انظر: «درء تَعارُضِ العقل والنقل» لابن تيمية (١/ ١/ ١٠١، ١٠٢، ٢٧١)]؛ كما لَقِيَ المهديُّ ابنُ تُومَرْت المتشيِّعُ (ت: ٥٢٤هـ) ـ خلالَ رحلته بالمشرق ـ أئمَّةَ الأشعريَّة، وأخَذ عنهم واستحسن طريقَهم، وذَهَب إلى رأيهم في اتِّباع المُتشابِه والاستدلالِ به على مقالاتهم الباطلة تحريفًا لنصوص الوحي وسعيًا للفتنة، فأَنكرَ ـ بعد ذلك ـ على أهل المغرب تمسُّكَهم باتِّباعِ طريقة السَّلف، وحَمَلهم على التَّأويل، وأَلزَمهم باتِّباعِ مذهب الأشاعرة في كافَّة العقائد، وأَعلنَ بإمامة الأشاعرة ووجوبِ تقليدهم، وألَّف العقائدَ على رأيهم مِثل: «المُرشِدة في التَّوحيد»، وكان يرى القولَ بعصمة الإمام على مذهب الإماميَّة مِنَ الشِّيعة، وألَّف ـ في ذلك ـ كتابَه في الإمامة الذي افتتحه بقوله: «أَعَزُّ ما يُطلَبُ»، وصار هذا المُفتتَحُ لقبًا على ذلك الكتاب، [انظر: «تاريخَ ابنِ خلدون (العِبَر)» (٦/ ٢٢٦ ـ ٢٢٧)، «الاستقصا لأخبار دُوَل المغرب الأقصى» للنَّاصري (٦/ ٦٣)].

وفي هذا السِّياقِ قال ابنُ خلدون ـ رحمه الله ـ في [«تاريخه (العِبَر)» (١/ ٢٣٠)]: «وجاء المهديُّ على أَثَرِهم داعيًا إلى الحقِّ [في ظنِّه] آخذًا بمذاهب الأشعريَّة، ناعيًا على أهل المغربِ عدولَهُم عنها إلى تقليد السَّلف في ترك التَّأويل لظواهر الشَّريعة، وما يؤول إليه ذلك مِنَ التَّجسيم ـ كما هو معروفٌ في مذهب الأشعريَّة ـ وسَمَّى أتباعَه: المُوحِّدين تعريضًا بذلك النَّكير، وكان يرى رأيَ أهلِ البيت في الإمام المعصوم، وأنَّه لا بُدَّ منه في كُلِّ زمانٍ، يُحفَظ بوجوده نظامُ هذا العالَم؛ فسُمِّيَ بالإمام لِمَا قُلناهُ ـ أوَّلًا ـ مِنْ مذهب الشِّيعة في ألقاب خُلَفائهم، وأُردِف بالمعصوم إشارةً إلى مذهبه في عصمة الإمام».

وأكَّد هذا المعنى الشَّيخُ مبارك الميلي ـ رحمه الله ـ في [«تاريخ الجزائر» (٢/ ٣٣٨)] بقوله: «وكان أهلُ المغرب سلفيِّين حتَّى رَحَل ابنُ تومرت إلى المشرق، وعَزَم على إحداثِ انقلابٍ بالمغرب سياسيٍّ علميٍّ دينيٍّ؛ فأخَذ بطريقة الأشعريِّ ونَصَرها، وسمَّى المرابطين السَّلفيِّين: «مُجسِّمين»، وتَمَّ انقلابُه على يد عبد المؤمن، فتَمَّ انتصارُ الأشاعرة بالمغرب، واحتجبَتِ السَّلفيةُ بسقوطِ دولةِ صنهاجة، فلم ينصرها ـ بعدهم ـ إلَّا أفرادٌ قليلون مِنْ أهل العلم في أزمنةٍ مُختلِفةٍ».

وبهذا المسلكِ الإلزاميِّ والاتِّباع القسريِّ فَتَن المهديُّ المتشيِّعُ المغاربةَ، وحَمَلهم على الالتزام بمذهب الأشعريَّة، «وقبل ذلك كانت علماءُ المغرب لا يدخلون في الكلام، بل يُتقِنون الفقهَ أو الحديث أو العربيَّة، ولا يخوضون في المعقولات، وعلى ذلك كان الأَصيليُّ، وأبو الوليد بنُ الفرضيِّ، وأبو عمر الطلمنكيُّ، ومكِّيٌّ القيسيُّ، وأبو عمرٍو الدَّاني، وأبو عمر بنُ عبد البَرِّ، والعلماء» [«سِيَر أعلام النُّبَلاء» للذَّهبي (١٧/ ٥٥٧) [في ترجمة أبي ذرٍّ الهَرَويِّ (ت: ٤٣٤ﻫ) (١٧/ ٥٥٤ ـ ٥٦٣)]، وانظر مقالتي: «تبيين الحقائق للسالك» على الموقع الرسميِّ].

(٣) «م.ر.أ»: «له بالٌ».

(٤) تقدَّمت ترجمته، انظر: [الرابط].

(٥) وفي الأصل: «هي»، ولعلَّ الصوابَ ما أَثبتُّه على المتن.

(٦) فأهل السُّنَّة كما يُثبِتون الأحكامَ بخبر الآحاد يُثبِتون أسماءَ اللهِ وصفاتِه والعقائدَ الأخرى به ـ أيضًا ـ مِنْ غيرِ تفريقٍ بين الأحكام والعقائد، ودون نظرٍ إلى قضيَّةِ القطع والظنِّ، وهذا مَحَلُّ إجماعٍ عند السلف، قال ابنُ عبد البرِّ ـ رحمه الله ـ في [«جامع بيان العلم وفضلِه» (٢/ ٩٦)]: «ليس في الاعتقاد كُلِّه في صفات الله وأسمائه إلَّا ما جاء منصوصًا في كتاب الله أو صحَّ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أو أجمعَتْ عليه الأمَّةُ، وما جاء مِنْ أخبار الآحاد في ذلك كُلِّه أو نحوِه يُسلَّمُ له ولا يُناظَرُ فيه»، وقال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في المَقام الخامس مِنَ «الصواعق المُرسَلة» باختصار الموصلي (٢/ ٥٠٩): «إنَّ هذه الأخبارَ لو لم تُفِدِ اليقينَ فإنَّ الظنَّ الغالبَ حاصلٌ منها ولا يمتنع إثباتُ الأسماء والصفات بها كما لا يمتنع إثباتُ الأحكام الطلبيَّة بها، فما الفرقُ بين باب الطلب وباب الخبر بحيث يُحتَجُّ بها في أحَدِهما دون الآخَر؟ وهذا التفريقُ باطلٌ بإجماع الأمَّة»، وقال ـ رحمه الله ـ في موضعٍ آخَرَ منه (٢/ ٥٢٤): «وأمَّا المقام الثامن وهو انعقادُ الإجماعِ المعلوم المُتيقَّنِ على قَبولِ هذه الأحاديثِ وإثباتِ صفات الربِّ تعالى بها، فهذا لا يَشُكُّ به مَنْ له أقلُّ خبرةٍ بالمنقول؛ فإنَّ الصحابة هم الذين روَوْا هذه الأحاديثَ، وتَلقَّاها بعضُهم مِنْ بعضٍ بالقَبول، ولم يُنكِرْها أحَدٌ منهم على مَنْ رواها، ثمَّ تَلقَّاها عنهم جميعُ التابعين مِنْ أوَّلِهم إلى آخِرِهم، ومَنْ سمعها منهم تَلقَّاها بالقَبول والتصديقِ لهم، ومَنْ لم يسمعها منهم تَلقَّاها عن التابعين كذلك، وكذلك تابِعُ التابعين مع التابعين، هذا أمرٌ يعلمه بالضرورة أهلُ الحديث كما يعلمون عدالةَ الصحابةِ وصِدقَهم وأمانَتَهم؛ ونقلُهم ذلك عن نبيِّهم صلَّى الله عليه وسلَّم كنقلِهم الوضوءَ والغُسل مِنَ الجنابة وأعدادَ الصلواتِ وأوقاتَها، ونقلِ الأذان والتشهُّد والجمعة والعيدين، فإنَّ الذين نقلوا هذا هم الذين نقلوا أحاديثَ الصفات، فإذا جاز عليهم الخطأ والكذب في نقلها جاز عليهم ذلك في نقلِ غيرها ممَّا ذكَرْناه، وحينئذٍ فلا وثوقَ لنا بشيءٍ نُقِل لنا عن نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم ألبتَّةَ، وهذا انسلاخٌ مِنَ الدِّين والعلم والعقل»، وقد أبانَ ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ عن طائفةٍ تقبل مِنَ الأخبار عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مُتواتِرَها وتردُّ آحادَها سواءٌ ممَّا يقتضي علمًا أو عملًا، فقال ـ رحمه الله ـ (٢/ ٥٢٥): «وقد ناظر الشافعيُّ بعضَ أهلِ زمانه في ذلك، فأَبطلَ الشافعيُّ قولَه وأقام عليه الحجَّة، وعَقَد في «الرسالة» (٤٠١) بابًا أطال فيه الكلامَ في تثبيتِ خبر الواحد ولزومِ الحجَّة به، وخروجِ مَنْ ردَّه عن طاعة الله ورسولِه، ولم يُفرِّق هو ولا أحَدٌ مِنْ أهل الحديث ـ ألبتَّةَ ـ بين أحاديث الأحكام وأحاديث الصفات، ولا يُعرَف هذا الفرقُ عن أحَدٍ مِنَ الصحابة ولا عن أحَدٍ مِنَ التابعين ولا مِنْ تابعيهم ولا عن أحَدٍ مِنْ أئمَّةِ الإسلام، وإنما يُعرَفُ عن رؤوس أهل البِدَع ومَنْ تَبِعهم».

(٧) لا يخفى أنَّ طريقةَ أهلِ الحقِّ السَّالكين لطريقةِ سلفِنا الصَّالحِ مُبايِنةٌ لطريقةِ المتكلِّمين؛ فهي أقومُ طريقًا وأَسَدُّ مذهبًا؛ ولا عجبَ في ذلك، فهُمْ أهلُ القرآن والسُّنَّة، وأتباعُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأهلُ العقول والفِطَر السليمة المُوافِقة لوحي الله تعالى، ينبع مِنْ أقوالهم النَّيِّرةِ العلمُ النَّافع الذي قام عليه الدَّليلُ، والعملُ الصَّالح الذي جاء به نبيُّهم صلَّى الله عليه وسلَّم، وظَفِروا بالسَّلامة مِنَ الهلاك بطاعة الله ورسولِه، وإخلاصِهم لله بالعبادة ولرسوله بالاتِّباع.

وفي مَعرِضِ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿قُلۡ كُلّٞ يَعۡمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِۦ فَرَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَنۡ هُوَ أَهۡدَىٰ سَبِيلٗا ٨٤[الإسراء]، قال الشَّيخ عبد الحميد بنُ باديس ـ رحمه الله ـ في [«تفسيره» (١٩٧)، و«الآثار» (١/ ٣٤٠)] في سياقِ بيانِ مراقبة الله في سلوك طريق المهتدين ما نصُّه: «فإنَّ عِلمَنا بأنَّه أعلمُ بمَنْ هو أهدى سبيلًا يَدْعونا إلى المبالغة في تقويمِ سلوكنا، حتَّى نكون على الصِّراط المستقيم الذي لا اعوجاجَ فيه؛ فإنَّه هو أهدى الطُّرُقِ وأَقرَبُها، وما ذلك الصِّراطُ المستقيم إلَّا القرآنُ العظيم، والهديُ النَّبويُّ الكريم، وسلوكُ السَّلفِ الصَّالح؛ وذلك هو دِينُ الإسلام».

(٨) «م.ر.ش»: «إليها».

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٧ مِنَ المحرَّم ١٤٤٠ ﻫ
الموافق ﻟ:  ٢٧ ســبتــمبر ٢٠١٨م