«فلسفة جمعية العلماء» - الحلقة الثانية - الجزء الأول | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 18 شوال 1445 هـ الموافق لـ 27 أبريل 2024 م

الكلمةُ الشَّهريةُ رقمُ: ١٦٢

 

«فلسفة جمعية العلماء»

[الحلقة الثانية]

«تفرُّق أهلِ الكُتُب السماويَّة في الدِّين قبل الإسلام»

[الجزء الأول]

تلتقي الأديانُ السماويَّة(١) في كلمةٍ سواءٍ(٢) ومَقصِدٍ أعلَى وهو جمعُ أهلِها على الهدى والحقِّ، لِيَسعَدوا في الدُّنيا ويَستعِدُّوا لسعادةِ الأخرى؛ بهذا جاءت الأديانُ المعروفة، وبهذا نزلت كُتُبُها؛ والقرآنُ الذي هو المُهيمِنُ عليها(٣) يُخبِرُنا بأنَّ كتابَ موسى إمامٌ ورحمةٌ(٤)، وأنَّ الله تعالى أَنزلَ التَّوراةَ والإنجيلَ هدًى للناس(٥)، وأنهما جاءا بما جاء به القرآنُ مِنَ الدعوة إلى عبادةِ إلهٍ واحدٍ والرجوعِ إليه وَحْدَه فيما يعلو كَسْبَ البشر، ومِنْ بثِّ التآخي بين الناس، وعدمِ استعبادِ بعضِهم للبعض(٦)، ومِنَ الأمر بالخير والنهيِ عن الشرِّ؛ ويخبرنا أنَّ مِنْ وصايا اللهِ الجامعة(٧) لِتلك الأُمَمِ على ألسنةِ رُسُلِها هي أَنْ يُقيموا الدِّينَ ولا يتفرَّقوا فيه(٨)؛ وأنَّ تلك الأُمَمَ لم تحفظ وصيَّةَ اللهِ فتَفرَّقَتْ في الدِّين شِيَعًا(٩)، وجعلَتِ السبيلَ الواحدَ سُبُلًا، واختلفت في الحقِّ مِنْ بعدِ ما جاءها مِنَ العلم والبيِّنات(١٠)، فقامت عليها الحجَّةُ وحقَّتْ عليها كلمةُ اللهِ وكان عاقبةُ أَمْرِها خُسْرًا(١١).

والقرآن يُبدِئ ويُعيدُ في هذا البابِ ويَقُصُّ علينا مِنْ مبادئِ بني إسرائيلَ ومصائرِهم ومواردِهم ومَصادِرِهم ما فيه مُزدجَرٌ، كُلُّ ذلك لِنَعتبِرَ بأحوالهم، ولا نَسلُكَ الطريقَ الذي سلكوا فنَهلِكَ كما هَلَكوا.

ولم يَألُ نبيُّنا صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم أُمَّتَه نُصحًا وإبلاغًا في هذا الباب، وكيف لا وقد أَنزلَ عليه ربُّه: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِي شَيۡءٍ[الأنعام: ١٥٩]؟! فكان أخشى ما يخشاه على أُمَّتِه أَنْ يَدِبَّ فيها داءُ الأُمَم قبلها(١٢) فتختلفَ كما اختلفت، وتتفرَّقَ في الدِّين كما تَفرَّقَتْ.

وقد وقَعَ ما كان يخشاه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، فتَفرَّقَتْ أُمَّتُه في الدِّين ولعَنَ بعضُها بعضًا باسْمِ الدِّين، وأكَلَ بعضُها مالَ بعضٍ باسْمِ الدِّين، وانتُهِكَتِ الأعراضُ والحُرُماتُ باسْمِ الدِّين، واتَّبَعَتْ سنَنَ مَنْ قَبْلَها شِبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراعٍ(١٣).

ولم تنتفع بتلك العِظَاتِ البالغةِ والنُّذُرِ الصادعة مِنْ كلام الله وكلامِ رسوله، حتَّى حقَّتْ عليها الكلمةُ وصارت إلى أسوإِ حالٍ مِنَ الخزي والنَّكال.

ـ يُتبَع ـ



(١) يجدر التَّنبيهُ إلى أنَّه قد يُتسامَحُ في إطلاقِ عبارةِ: «الأديان السَّماويَّة» لكثرةِ استعمالِ العلماءِ لها خاصَّةً المعاصرين منهم؛ وإلَّا فإنَّ الأصلَ عدمُ صِحَّتِها باعتبارِ أنَّ السماءَ لم ينزل منها إلَّا دِينٌ واحدٌ فقط، وهو دِينُ الإسلام لقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ[آل عمران: ١٩]، وقولِه: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥[آل عمران]، لأنَّ دِينَ اللهِ الحقَّ إنَّما هو واحدٌ، وهو دِينُ الأنبياء كُلِّهم ودِينُ أتباعِهم على دِينهم لِمَا دلَّت عليه كثيرٌ مِنَ النُّصوصِ القرآنيَّةِ.

فالدِّين لا يتعدَّد وإنَّما التَّعدُّدُ في الشَّرائعِ والأعمالِ والعباداتِ والرِّسالاتِ كما قال تعالى: ﴿لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗا[المائدة: ٤٨]، فدِينُ الأنبياءِ واحدٌ وشرائعُهم شتَّى؛كما جاء في الحديث: «الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ واحدٌ» [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «أحاديث الأنبياء» (٦/ ٤٧٨) باب قول الله: ﴿وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا﴾، ومسلمٌ في «كتاب الفضائل» (٤/ ١٨٤٧)]، فمَنْ كان مِنْ أهل الكتاب على دِينِ نبيِّه الحقِّ غيرِ المبدَّلِ قبل نسخه بشريعةِ مَنْ بعده فهو مسلمٌ، ومَنْ كان على الدِّين المبدَّل أو بعد نسخِه أو كان على دِينٍ مُحدَثٍ مِنْ أديان الأرض مِنْ عَبَدةِ الأصنام والأوثان والنِّيران والكواكب وغيرِها كان كافرًا؛ وقد جمَعَ اللهُ أديانَ أهلِ الأرض في سِتَّةٍ فقال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ١٧[الحج]؛ [انظر: «تفسير السِّعدي» (٥٣٥)].

هذا، والأَوْلى صِحَّةً بالمصنِّف ـ رحمه الله ـ استعمالُ عبارةِ: «الكُتُب السماويَّة» أو «الرِّسالات السَّماويَّة» ويُعنَى بها: رسالةُ نوحٍ، ورسالةُ موسى، ورسالةُ عيسى عليهم السلام وغيرِهم، أو استعمالُ عبارةِ: «الشَّرائِع السَّماويَّة» ويُعنَى بها: شريعةُ موسى وعيسى قبل التَّبديل، ومحمَّدٍ عليهم الصلاةُ والسلام، فهذه تختلف وتتعدَّد.

وأمَّا ما أحدثه اليهودُ والنَّصارى مِنْ تبديلٍ لشرعِ اللهِ، وتغييرٍ لحقيقةِ الدِّينِ، وتحريفٍ للكُتُبِ المنزَّلةِ، فهذه المُحدَثاتُ كُلُّها ليست مِنْ شريعة السَّماء، ولا تُنسَبُ إلى الأنبياءِ، وإنَّما تُنسَب إلى أُمَمِهم لا إلى شرائعِ الأنبياءِ، فيُعبَّر عنها ﺑ: «ما أحدثَتْه الأمَّتانِ الموسويَّةُ أو العيسويَّةُ».

وإِنْ كان مُرادُه ما في الشَّرع المبدَّل على عُجَرِه وبُجَرِه فيمكن استعمالُ عبارةِ: «أديان أهلِ الكُتُب السَّماويَّة» ونحوِها مِنَ العبارات.

(٢) والمراد ﺑ «كلمةٍ سواءٍ» التي أمَرَ الله رسولَه: أَنْ يدعُوَ أهلَ الكتاب إليها في قوله تعالى: ﴿قُلۡ يَٰأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ ٦٤[آل عمران]، وهي «شهادةُ أَنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ» التي جاء بها الرُّسُلُ جميعًا للنَّاس كافَّةً، تلتقي فيها الشَّرائعُ السَّماويَّةُ على عقيدةٍ واحدةٍ، وهي: أنَّ المُلْكَ كُلَّه لله الذي هو متَّصِفٌ بجميعِ صفات الكمال، وأنَّ الأمرَ كُلَّه له سبحانه، يَشرَعُ الأحكامَ ويُنشِئُها، ويُرسِل بها رُسُلَه لِيُبلِّغوها إلى النَّاس، فهو سبحانه المعبودُ وَحْدَه بحقٍّ، لأنه صاحبُ الخَلْق والأمر؛ قال السِّعديُّ ـ رحمه الله ـ [في تفسيره للآية السابقة (١٣٣)]: «قُلْ لأهل الكتاب مِنَ اليهود والنَّصارى: تعالَوْا إلى كلمةٍ سواءٍ بينَنا وبينكم أي: هَلُمُّوا نجتمع عليها وهي الكلمةُ التي اتَّفَق عليها الأنبياءُ والمُرسَلون، ولم يخالفها إلَّا المعاندون والضَّالُّون، ليست مختصَّةً بأحَدِنا دون الآخَرِ، بل مُشترَكةٌ بيننا وبينكم، وهذا مِنَ العدل في المَقال والإنصاف في الجدال، ثمَّ فسَّرها بقوله: ﴿أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا﴾: فنُفرِدُ اللهَ بالعبادة ونخصُّه بالحبِّ والخوف والرَّجاء، ولا نُشرِك به نبيًّا ولا مَلَكًا ولا وليًّا ولا صنمًا ولا وثنًا ولا حيوانًا ولا جمادًا؛ ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ﴾، بل تكون الطاعةُ كُلُّها لله ولرُسُلِه، فلا نطيع المخلوقين في معصية الخالق، لأنَّ ذلك جَعلٌ للمخلوقين في منزلة الرُّبوبيَّة؛ فإذا دُعِيَ أهلُ الكتابِ أو غيرُهم إلى ذلك، فإِنْ أجابوا كانوا مِثلَكم: لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وإِنْ تولَّوْا فهُم معاندون متَّبِعون أهواءَهم، فأَشهِدوهم أنَّكم مسلمون».

(٣) والقرآن الكريم كما أنه جاء مصدِّقًا للكُتُب السابقة فقَدْ جاء ـ أيضًا ـ مُهيمِنًا عليها بمعنَى أنَّ القرآنَ جاء شهيدًا عليها أنها حقٌّ مِنْ عندِ الله وحافظًا لها وأمينًا عليها؛ قال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِ[المائدة: ٤٨]؛ قال السِّعديُّ ـ رحمه الله ـ [في «تفسيره» (٢٣٤)] عند قوله: ﴿وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِ﴾: «أي: مُشتمِلًا على ما اشتملت عليه الكُتُبُ السابقة، وزيادةٍ في المطالب الإلهيَّة والأخلاق النَّفسيَّة، فهو الكتابُ الذي تَتبَّع كُلَّ حقٍّ جاءت به الكُتُبُ فأمَرَ به وحثَّ عليه، وأَكثرَ مِنَ الطُّرُق المُوصِلةِ إليه، وهو الكتابُ الذي فيه نبأُ السَّابقين واللَّاحقين، وهو الكتابُ الذي فيه الحُكمُ والحِكمةُ والإحكام، الذي عُرِضَتْ عليه الكُتُبُ السابقة، فما شَهِد له بالصِّدق فهو المقبولُ، وما شَهِد له بالرَّدِّ فهو مردودٌ، قد دخَلَه التَّحريفُ والتَّبديلُ، وإلَّا فلو كان مِنْ عند الله لم يخالفه».

(٤) وذلك في قوله تعالى: ﴿وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَٰبُ مُوسَىٰٓ إِمَامٗا وَرَحۡمَةً[هود: ١٧، الأحقاف: ١٢]: كتابُ مُوسى هو التَّوراةُ، جعله اللهُ إمامًا لِبني إسرائيلَ يأتمُّون ويقتدون بهِ، أَنزلَه اللهُ عليهم رحمةً لهم، يشهدُ لهذا القرآنِ بالصِّدق، ويوافقه فيما جاء به مِنَ الحقِّ؛ [انظر: «تفسير السِّعدي» (٣٧٩، ٧٨٠)].

(٥) وذلك في قوله تعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ ٣ مِن قَبۡلُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلۡفُرۡقَانَ[آل عمران: ٣ ـ ٤]؛ فالآية تدلُّ على أنَّ الله نَزَّلَ على النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم القرآنَ بالحقِّ في أخباره وأوامره ونواهيه، فما أَخبرَ به صدقٌ، وما حكَمَ به فهو العدلُ، ومُصَدِّقًا لِمَا قبله مِنَ الكُتُبِ في التَّوحيد والنُّبُوَّات والأخبارِ وغيرِها، وهو المُزكِّي لِمَا فيها: فما شَهِد له فهو الحقُّ المقبولُ، وما ردَّه فهو المردودُ إمَّا لزيفه أو نسخِه؛ قال السِّعديُّ ـ رحمه الله ـ في [«تفسيره» (١٢١)]: «أنزلَ اللهُ القرآنَ والتوراةَ والإنجيلَ هدًى للناس مِنَ الضلال، فمَنْ قَبِل هُدَى اللهِ فهو المهتدي، ومَنْ لم يقبل ذلك بقي على ضلاله؛ ﴿وَأَنزَلَ ٱلۡفُرۡقَانَ﴾ أي: الحُجَجَ والبيِّناتِ والبراهينَ القاطعاتِ الدَّالَّةَ على جميعِ المقاصد والمطالب، وكذلك فصَّل وفسَّر ما يحتاج إليه الخَلْقُ حتَّى بَقِيَتِ الأحكامُ جليَّةً ظاهرةً، فلم يَبْقَ لأحدٍ عذرٌ، ولا حجَّةَ لمَنْ لم يؤمن به وبآياته».

(٦) لقوله تعالى: ﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِيحَ ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُوٓاْ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗاۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَٰنَهُۥ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٣١[التوبة]، وقولِه: ﴿قُلۡ يَٰأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ ٦٤[آل عمران].

(٧) الوصايا الجامعة التي إِنْ قام بها العبدُ بما بيَّنه اللهُ له علمًا وعملًا صار مِنَ المُتَّقِين، ومِنْ عباد الله المُفلِحين، وقد سُمِّيَتِ الوصايا الجامعةُ بالوصايا العشرِ لأنَّ الله تعالى جمَعَها في مكانٍ واحدٍ مِنْ سورة الأنعام في الآيات: [١٥١ ـ ١٥٣] في قوله سبحانه: ﴿قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ١٥١ وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُواْۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ١٥٢ وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٥٣[الأنعام]، وقد ختَمَ اللهُ كُلَّ آيةٍ منها بجملةٍ متضمِّنةٍ للإخبار بأنها وصيَّتُه بقوله تعالى: ﴿ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ﴾؛ [انظر: «مجموع فتاوى ورسائل ابنِ العثيمين» (٧/ ٢٨٢)].

والمعنيُّ عند المصنِّف ـ رحمه الله ـ بهذا الكلامِ هو ما ذُيِّلَتْ به هذه الوصايا الجامعةُ السابقةُ وهو قولُه تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦ[الأنعام: ١٥٣] حيث أمَرَ الله المؤمنين في هذه الآيةِ باتِّباعِ طريقه ودِينِه الذي شرَعَه لهم وارتضاه، وهو الإسلامُ الذي وصَّى به الأنبياءَ، وأمَرَ به الأُمَمَ قبلهم، وهو جامعٌ للوصايا المذكورةِ قبله، ووصَّاهم أَنْ يجتمعوا عليه، ونهاهم عن الاختلاف والفُرقة فيه، وأَخبرَهم أنَّ صراطَ اللهِ المستقيمَ الذي لا اعوجاجَ فيه عن الحقِّ هو السبيلُ الأوحدُ المُوصِلُ إليه وإلى دارِ كرامته، فهو واجبٌ اتِّباعُه والعملُ به واتِّخاذُه منهجًا لنيلِ الفوز والفلاحِ، وإدراكِ الآمال الأفراح، وتحقيقِ السعادة في الدَّارَيْن، دون طُرُقِ الضَّلالة والغِواية مِنَ البِدَع والحوادث والشُّبُهات، والمِراء والخصومات في الدِّين وغيرِها، وحذَّرهم تحذيرًا مِنْ كُلِّ ما يؤدِّي إلى التَّردِّي والشَّتات والهلاكِ.

(٨) وذلك في قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ ١٣[الشورى]، ومعنى الآية: أنَّ الله عَهِد إلى كُلِّ الرُّسُل والأنبياء بوجوبِ إقامة الدِّين مِنْ توحيد الله والإيمانِ به وطاعةِ رُسُله وقبولِ شرائعه، كما عَهِد إليهم بوجوبِ الأُلفة والجماعة على إقامة الدِّين، وتركِ الفُرقة والمخالفة؛ وقد ذكَرَ ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ في [«تفسيره» (٣/ ١٢٨)] فَضْلَ القرآن العظيمِ بقوله: «فهو أمينٌ وشاهدٌ وحاكمٌ على كُلِّ كتابٍ قبله، جَعَلَ اللهُ هذا الكتابَ العظيمَ الَّذي أَنْزَلَه آخِرَ الْكُتُبِ وَخَاتَمَهَا: أَشْمَلَها وأعظمَها وأَحكمَها، حيثُ جَمَعَ فيه مَحاسِنَ ما قَبْلَه، وزَادَهُ مِنَ الكمالاتِ ما ليس في غيرِه؛ فلِهذا جَعَلَه شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كُلِّها، وَتَكفَّلَ تعالى بِحِفظِه بِنَفْسِه الكريمةِ فقال [تعالى]: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩[الحِجْرَ]»؛ كما ذكَرَ السِّعديُّ ـ رحمه الله ـ في [«تفسيره» (٧٥٤)] معنَى إقامةِ الدِّينِ وعدمِ التَّفرقِ فيه بقوله: «أي: أمَرَكم أَنْ تُقِيموا جميعَ شرائعِ الدِّين: أصولِه وفروعِه: تُقِيمونه بأنفُسِكم، وتجتهدون في إقامته على غيركم، وتَعاوَنون على البِرِّ والتَّقوى ولا تَعاوَنون على الإثم والعدوان؛ ﴿وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾ أي: لِيَحصُلْ منكم الاتِّفاقُ على أصول الدِّين وفروعه، واحْرِصوا على أَنْ لا تُفرِّقَكم المسائلُ وتحزِّبَكم أحزابًا وتكونون شِيَعًا يُعادي بعضُكم بعضًا، مع اتِّفاقكم على أصلِ دِينِكم».

(٩) ويدلُّ على تفرُّقِ الأمم في الدِّينِ شِيَعًا: قولُه تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِي شَيۡءٍۚ إِنَّمَآ أَمۡرُهُمۡ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ ١٥٩[الأنعام]، وقولُه تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٣١ مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٣٢[الروم]، وقولُه تعالى: ﴿وَإِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱتَّقُونِ ٥٢ فَتَقَطَّعُوٓاْ أَمۡرَهُم بَيۡنَهُمۡ زُبُرٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٥٣[المؤمنون].

(١٠) ويدلُّ على تفرُّقِ الأُمَمِ في الدِّينِ بعد ما جاءهم البيِّنات: قولُه تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ ١٠٥[آل عمران]، وقولُه تعالى: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡ[الشورى١٤]، وقولُه تعالى: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ ٤[البيِّنة]، وقولُه تعالى: ﴿وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡ[البقرة: ٢١٣]، وقولُه تعالى: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡ[آل عمران: ١٩]، وقولُه تعالى: ﴿وَءَاتَيۡنَٰهُم بَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِۖ فَمَا ٱخۡتَلَفُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡ[الجاثية: ١٧].

(١١) ويدلُّ على خُسرانِ العاقبةِ قولُه تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ عَتَتۡ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِۦ فَحَاسَبۡنَٰهَا حِسَابٗا شَدِيدٗا وَعَذَّبۡنَٰهَا عَذَابٗا نُّكۡرٗا ٨ فَذَاقَتۡ وَبَالَ أَمۡرِهَا وَكَانَ عَٰقِبَةُ أَمۡرِهَا خُسۡرًا ٩[الطلاق].

(١٢) والمراد بِداء الأُمَمِ الذي أَخبرَ به النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم ثابتٌ مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا أنه قال: «سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الأُمَمِ»، فَقَالُوا: «يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا دَاءُ الأُمَمِ؟» قَالَ: «الأَشَرُ وَالبَطَرُ، وَالتَّكَاثُرُ [أَوِ: التَّدَابُرُ]، وَالتَّنَاجُشُ [أَوِ: التَّنَافُسُ] فِي الدُّنْيَا، وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ [أَوِ البُخْلُ]، حَتَّى يَكُونَ البَغْيُ، [ثُمَّ يَكُونُ الْهَرْجُ]»؛ [أخرجه الطبرانيُّ في «الأوسط» (٩٠١٦)، والحاكم (٧٣١١). وصحَّح إسنادَه الحاكم (٤/ ١٦٨)، وجوَّد إسنادَه الحافظ العراقيُّ في «تخريج الإحياء: المغني عن حمل الأسفار» (٣/ ١٨٧)، وصحَّحه الذهبيُّ في «التلخيص»، والألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٢/ ٢٩٠)]، ومِنْ حديثِ الزُّبير بنِ العوَّام رضي الله عنه عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، وَالبَغْضَاءُ هِيَ الحَالِقَةُ: حَالِقَةُ الدِّينِ لَا حَالِقَةُ الشَّعْرِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»؛ [رواه الترمذيُّ في «صفة القيامة والرَّقائق والورع» (٤/ ٦٦٤) باب (٥٦) رقم: (٢٥١٠)، وأحمد (١/ ١٦٥، ١٦٧) رقم: (١٤١٢، ١٤٣٠)، والبيهقيُّ (٢١٠٦٥)، وغيرُهم، والحديث حسَّنه الألبانيُّ لغيره، انظر: «صحيح الترمذي» (٢/ ٦٠٧) و«إرواء الغليل» (٣/ ٢٣٨) و«صحيح الترغيب والترهيب» (٣/ ٢٣، ٩٩) كُلُّها للألباني].

(١٣) فيه إشارةٌ إلى حديثِ اتِّباعِ سننِ مَنْ قبلنا مِنَ اليهود والنَّصارى وفارِسَ والرُّوم الثَّابت في الصحيحين مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ»، قُلْنَا: «يا رَسُولَ اللهِ اليَهُودُ والنَّصارى؟» قالَ: «فَمَن؟» [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة» بابُ قولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» (٧٣٢٠)، ومسلمٌ في «العلم» (٢٦٦٩)، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه].