Skip to Content
الجمعة 9 رمضان 1444 هـ الموافق لـ 31 مارس 2023 م

الكلمة الشهرية رقم: ٤٣

التلبيس والتعمية سبيلُ أهل الباطل

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فالمتأمِّلُ في الشريعةِ الغرَّاءِ يجد أنَّ القرآنَ الكريمَ والسنَّةَ النبوية لم يُثْبِتَا سوى حقٍّ دَعَا إليه الشرعُ وهَدَى به الضالَّ، وما يُقابِلُه الباطلُ نَهَى الشرعُ عن ركوبه وحَذَّر مِنِ اقترافه، ولا مَرْتَبَةَ بينهما معلومةٌ، قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ هُوَ ٱلۡبَٰطِلُ[الحج: ٦٢]، وقال تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعۡدَ ٱلۡحَقِّ إِلَّا ٱلضَّلَٰلُ[يونس: ٣٢]، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّآ أَوۡ إِيَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٢٤[سبأ]، وقال تعالى: ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞ[الأنبياء: ١٨]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «القُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»(١)؛ فهو يدلُّ على النجاةِ باتِّباعِ الحقِّ والعملِ به، وعلى سوءِ عاقبةِ مَنْ أَعْرَضَ عنه بلا عَمَلٍ واتَّبع الباطلَ ورَضِيَه(٢).

والتلبيسُ هو إظهارُ الباطلِ في صورة الحقِّ؛ ومَزْجُ الحقِّ بالباطلِ بالكتمان والتعميةِ هو صنيعُ أهلِ الباطل، لكنَّ منهجَ أهلِ الحقِّ العملُ على بيانِه وتمييزِه عن الباطل، وهذا هو منهجُ أهل السنَّة: جاءوا بالبيان الكافي وقابَلوا الأمراضَ بالدواء الشافي، وتَوافَقُوا على منهاجٍ لم يَخْتلِفْ، كذا كانَتْ حكمةُ بعثةِ الرُّسُل مِنْ قبلُ، وكتمانُ الحقِّ لا يجوز، لكِنْ إذا اقتضى المَقامُ والحالُ والمصلحةُ بيانَه في الحال مِنْ غيرِ تأخيرٍ(٣) فإنه يجب بيانُه ولا يجوز تعميةُ الحقِّ أو تلبيسُه على وجهٍ يُعطِّلُ الحقَّ ويصرفه الملَبِّسُ عن الناس بالاشتباه والتضليل؛ فإنَّ الشيطانَ الجنِّيَّ والإنسيَّ يمزج كُلٌّ منهما بالبيان مُشْتَبَهًا، وبالدواء سُمًّا.

والتلبيسُ والكتمانُ صورتان وَرَدَ النكيرُ الشرعيُّ عليهما لخُلُوِّهما مِنَ الصدق المأمورِ به شرعًا؛ إذ هو مِنْ متمِّمات الإيمانِ ومكمِّلاتِ الإسلام، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ ١١٩[التوبة]، ولا يخفى أنه بانتفاءِ الصدق يحلُّ الغشُّ والخداعُ والتزويرُ والتغريرُ والمكرُ والتلبيسُ والخيانةُ، وهذه الأوصافُ القبيحةُ لا تكون خُلُقًا للمسلم بحالٍ؛ لأنَّ طهارة نَفْسِه المُكْتَسَبةَ مِنَ الإيمان والعملِ الصالح تأبى أَنْ تَتجانسَ مع هذه الأخلاقِ الذميمة.

ومِثْلُ هذا الصنيعِ مِنَ الخُلُقِ غيرِ المَرْضِيِّ غلَّظه اللهُ تعالى على اليهودِ المغضوبِ عليهم، الذين كانوا يعلمون الحقَّ لكنَّهم كانوا يكتمونه ويُلبِّسونه على الناس حتَّى يَشْتَبِهَ عليهم الحقُّ بالباطل؛ فقَدْ كانوا يقولون ـ مَثَلًا ـ: محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم حقٌّ لكنَّه رسولُ الأُمِّيِّين لا جميعِ العالَمين؛ فأَنْكَرَ اللهُ عليهم تلبيسَهم وكتمانَهم الحقَّ بقوله: ﴿وَلَا تَلۡبِسُواْ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُواْ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٤٢[البقرة].

وصُوَرُ تلبيسِ الحقِّ بالباطل عديدةٌ ومتنوِّعةٌ، ومصدُرها بلا شكٍّ مِنْ تلبيسِ إبليسَ اللعين، وقد وَضَعَ أبو الفَرَجِ عبدُ الرحمن بنُ الجوزيِّ البغداديُّ ـ رحمه الله ـ كتابًا في هذا البابِ أَغْنَانَا عن إيرادِ صُوَرِ التلبيسِ التي يَقَعُ فيها الناسُ في شِراكِ إبليسَ وشِباكه الشيطانية على مُخْتَلَف درجاتهم وطبقاتهم، لكنَّ الصورة التي أُعْنَى بها في هذا المَقامِ بهذا المَقالِ إنما هي عَبَثُ بعضِ المُرْتَزِقة الحاقدين مِنْ خصومِ دعوة التوحيد ـ في بلَدِنا هذا ـ الذين اسْتَفْحَلَتْ عداوتُهم لهم وقَوِيَتْ رغبتُهم في الدنيا ومَناصِبِها مِنْ غيرِ مُبالاةٍ لجهةِ كَسْبِها؛ فحَشَا أقوالَه وتصريحاتِه بالتلبيس والتعمية، وغِيبةِ الناس ومَدْحِ النفس، وسَمِجِ الكلام والإكثارِ مِنَ اللغط؛ واتَّخذ مِنَ الجرائدِ والصُّحُف سندًا لتسويدِ أكاذيبه ومطيَّةً لنَشْرِ أباطيلِه، الْتماسًا للمال وتزلُّفًا للسلطان؛ وله مع مَنْ تَعاوَنَ معه مَآربُ أخرى، كُلُّ ذلك على حسابِ الدِّين والقِيَم والأخلاق؛ ويدلُّ على هذا القصدِ إفلاسُ مَقالاته مِنْ حُجَجِ الشرعِ وأدلَّةِ الفروع وأصول النظر، وليس عنده ما يُعينُ الطبعَ على شموخه ـ إذ فاقِدُ الشيء لا يُعْطيه ـ فترى الهوى يَسْرَحُ فيه بلا زادٍ، ويَشُمُّ البعيدُ منه رائحةَ الحقد والحسد والدَّغَلِ لهذه الأمَّةِ قبل القريب، واللهُ المستعان ونعوذ بالله مِنَ الخذلان، وأقول ـ وبالله التوفيق ـ:

إنَّ الحملة الشَّرِسَةَ المشحونة بالأراجيف والأكاذيب والأباطيل التي يَفْتعِلُها خصومُ دعوةِ التوحيد ـ في بَلَدِنا هذا وسائرِ بلاد المسلمين ـ للطعن في دعوة الشيخ محمَّد بنِ عبد الوهَّاب ـ رحمه الله ـ الإصلاحية بشتَّى الأساليب والدعاوى الكاذبة، ووَصْفِها بأنها دعوةٌ سياسيةٌ حزبيةٌ مؤسَّسةٌ على بُغْض النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ﴿كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا ٥[الكهف]، وخاصَّةً عند بَحْثِ بدعيةِ المَوالِدِ والزيادةِ في الأذان والأوراد التي تَضَمَّنَتْ غُلُوًّا في إطراءِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ونحوِ ذلك؛ لاستجلابِ وتحريكِ عواطفِ المسلمين بمَحَبَّتهم النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بتلك الدعاوى الآثمةِ باسْمِ أنَّ السلفيِّين لا يُحِبُّون النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ويُبغضون الصلاةَ عليه؛ كُلُّ ذلك تقصُّدًا لتنفيرِ الناسِ عن منهجِ أهلِ السُّنَّةِ ولصدِّ انتشارِ الدعوة السلفية المؤسَّسةِ على تجريدِ التوحيد مِنَ الشركيات، ونَبْذِ جميعِ السُّبُلِ إلَّا سبيلَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وما دعوةُ الشيخِ محمَّد بنِ عبد الوهَّاب(٤) ـ رحمه الله ـ «إلَّا امتدادٌ لدعوةِ المتَّبِعين لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ السلفِ الصالح ومَنْ سارَ على نَهْجِهم مِنْ أهل السُّنَّة والجماعة، التي لا تخرج عن أصولهم ولا عن مَسْلَكِهم في الدعوة إلى الله بالحُجَّة والبرهان، قال تعالى: ﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٨[يوسف]، وقد كانَتْ دعوتُه ودعوةُ أئمَّةِ الهدى والدِّينِ قائمةً على مُحارَبةِ البِدَعِ والتعصُّبِ المذهبيِّ والتفرُّق، وعلى مَنْعِ وقوعِ الفِتَنِ بين المَذاهِبِ والانتصارِ لها بالأحاديثِ الضعيفة والآراءِ الفاسدة، وتَرْكِ ما صحَّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ السُّنن والآثار، كما حارَبَتْ دعوتُه تَنْزيلَ الإمامِ المتبوعِ في أتباعِه مَنْزلةَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في أُمَّته، والإعراضَ عن الوحيِ والاستغناءَ عنه بأقوال الرجال؛ فمِثْلُ هذا الالتزامِ بمذهبٍ واحدٍ اتُّخِذَ سبيلًا لجَعْلِ المذهبِ دعوةً يُدْعى إليها: يُوالى ويُعادى عليها؛ الأمرُ الذي أدَّى إلى الخروجِ عن جماعة المسلمين وتفريقِ صفِّهم وتشتيتِ وحدتهم، وقد حَصَلَ بسبب ذلك تسليطُ الأعداءِ عليهم واستحلالُ بيضتهم؛ فأهلُ السُّنَّةِ والجماعة إنما يَدْعون إلى التمسُّكِ بوصيَّةِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المتمثِّلةِ في الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة وما اتَّفقَتْ عليه الأُمَّةُ؛ فهذه أصولٌ معصومةٌ دون ما سِواها، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنِّي قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا، أَوْ عَمِلْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ»(٥)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ المَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»(٦).

إنَّ استصغارَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ والتنقُّصَ مِنْ قَدْرِهم بنبزهم بألسنةٍ حِدادٍ وأوصافٍ بغيضةٍ بحسَبِ ما أُتيحَ لهم مِنْ فُرَصٍ ومناسباتٍ مثل: «الوهَّابية» و«الحشوية» و«تَلَفِيُّون أتباع ذَنَبِ بغلةِ السلطان»، و«عُلَماء السلاطين» و«عُلَماء البلاط» و«العُمَلاء»، و«عُلَماء الحيض والنِّفاس» و«أصحاب حَوَاشٍ وفروعٍ» و«جَهَلةِ فقهِ الواقع» وغيرها، ما هي إلَّا سُنَّةُ المُبْطِلين الطاعنين في أهل السُّنَّة السلفيِّين، ولا تَزالُ سلسلةُ الفساد لا تنقطع يجترُّها المرضى بفسادِ الاعتقاد، يُطْلِقون عباراتِهم الفَجَّةَ في حقِّ أهلِ السُّنَّة والجماعة، ويُلْصِقون التُّهَمَ الكاذبةَ بأهل الهدى والبصيرة؛ لإبعادِ الناس عن دعوتهم وتنفيرِهم عنها وصَدِّهم عمَّا دعَوْا إليه، والنظر إليهم بعين الاحتقار والسخط والاستصغار، وهذا ليس بغريبٍ ولا بعيدٍ على أهلِ الباطل في التجاسر على العُلَماء وما يحملونه مِنْ علمٍ ودينٍ باللمز والغمز والتنقُّص؛ فقَدْ طُعِنَ في النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بألقابٍ كاذبةٍ ووُصِفَ بأوصافٍ خاطئةٍ، قال تعالى: ﴿كَذَٰلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُواْ سَاحِرٌ أَوۡ مَجۡنُونٌ ٥٢ أَتَوَاصَوۡاْ بِهِۦۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٞ طَاغُونَ ٥٣[الذاريات]، وقد جاء هذا الخُلُقُ الذميمُ على لسانِ رجلٍ مِنَ الخوارج في قوله للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «اعْدِلْ»(٧)، وقال آخَرُ منهم لعثمانَ رضي الله عنه عندما دَخَلَ عليه لِيَقْتُلَه: «نعثل»(٨)؛ قال الشاطبيُّ: «ورُوِي أنَّ زعيمًا مِنْ زُعَماءِ أهلِ البِدَعِ كان يريد تفضيلَ الكلام على الفقه؛ فكان يقول: إنَّ عِلْمَ الشافعيِّ وأبي حنيفة جُمْلتُه لا يخرج مِنْ سراويلِ امرأةٍ»؛ فعلَّق عليه قائلًا: «هذا كلامُ هؤلاء الزائغين؛ قاتَلَهم اللهُ»(٩)؛ والطعنُ في وَرَثَةِ الأنبياءِ بريدُ المروق مِنَ الدِّين، ﴿فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٦٣[النور]، ومتى وُجِدَتْ أُمَّةٌ ترمي عُلَماءَها وصَفْوَتَها بالجهل والتنقُّصِ فاعْلَمْ أنهم على بابِ فتنةٍ وهَلَكةٍ، وأيُّ سعادةٍ تدخل على أعداءِ الإسلام بمِثْلِ هذا الأذى والبهتان!»(١٠).

هذا، وفي مَعْرِض بيانِ حالِ أهل الدَّجَل الذين أَحْكَموا الحيلةَ في هذه الأُمَّةِ المسكينةِ بتخديرها بالرُّؤى والمَنامات والفِداءِ والمكفِّرات، وزعزعوا عقيدتَها في الله بما أَثْبَتُوه لأَنْفُسهم مِنَ التصرُّف في الكون أحياءً وأمواتًا، ومِنْ مُشارَكةِ الخالق فيما تَفرَّدَ به مِنَ الخَلْق والأمر، وأفسدوا فِطْرَتَها بما ابتدعوه لها مِنْ عباداتٍ بالزيادة والنقصان، ففي هذا المضمونِ التحذيريِّ يذكر الشيخُ محمَّد البشير الإبراهيميُّ ـ رحمه الله ـ توجيهًا صادقًا ودفاعًا ماتعًا عن الوهَّابية وما يَنْقِمون منها وهذا نصُّه: «يقولون عنَّا: إنَّنا وهَّابيُّون، كلمةٌ كَثُرَ تَرْدادُها في هذه الأيَّامِ الأخيرة حتَّى أَنْسَتْ ما قبلها مِنْ كلماتٍ: عبداويِّين وإباضيِّين وخوارج؛ فنحن ـ بحمدِ الله ـ ثابتون في مكانٍ واحدٍ وهو مُسْتقَرُّ الحقِّ، لكنَّ القوم يَصْبُغوننا في كُلِّ يومٍ بصِبْغةٍ، ويَسِمُونَنَا في كُلِّ لحظةٍ بِسِمَةٍ، وهُمْ يَتَّخِذون مِنْ هذه الأسماءِ المُخْتلِفة أدواتٍ لتنفيرِ العامَّةِ منَّا وإبعادِها عنَّا، وأسلحةً يُقاتِلوننا بها، وكُلَّما كَلَّتْ أداةٌ جاءوا بأداةٍ، ومِنْ طبيعةِ هذه الأسلحةِ الكلالُ وعَدَمُ الغَناء، وقد كان آخِرُ طرازٍ مِنْ هذه الأسلحةِ المفلولة التي عَرَضوها في هذه الأيَّامِ كلمةُ: «وهَّابي»، ولعلَّهم حَشَدُوا لها ما لم يحشدوا لغيرها وحَفَلوا بها ما لم يَحْفِلوا بسِواها، ولعلَّهم كَافَأُوا مُبْتَدِعَها بلقبِ: «مُبْدِعٍ كبيرٍ»»، ثمَّ أضافَ ـ رحمه الله ـ قائلًا:

«يا قوم! إنَّ الحقَّ فوق الأشخاص، وإنَّ السُّنَّة لا تُسَمَّى باسْمِ مَنْ أَحْيَاهَا، وإنَّ الوهَّابيِّين قومٌ مسلمون يُشارِكونكم في الانتساب إلى الإسلام ويَفُوقونكم في إقامةِ شعائِرِه وحدودِه، ويفوقون جميعَ المسلمين في هذا العصرِ بواحدةٍ وهي أنهم لا يُقِرُّون البدعةَ، وما ذَنْبُهم إذا أَنْكَرُوا ما أَنْكَرَهُ كتابُ الله وسُنَّةُ رسوله، وتَيَسَّرَ لهم مِنْ وسائلِ الاستطاعة ما قَدَروا به على تغيير المُنْكَر؟

أإذا وافَقْنا طائفةً مِنَ المسلمين في شيءٍ معلومٍ مِنَ الدِّين بالضرورة، وفي تغييرِ المُنْكَرات الفاشيةِ عندنا وعندهم ـ والمُنْكَرُ لا يختلف حكمُه بحكمِ الأوطان ـ تَنْسِبُوننا إليهم تحقيرًا لنا ولهم وازدراءً بنا وبهم؟ وإِنْ فَرَّقت بيننا وبينهم الاعتباراتُ: فنحن مالكيُّون برغمِ أنوفكم، وهُمْ حنبليُّون برغم أنوفكم، ونحن في الجزائر وهُمْ في الجزيرة، ونحن نُعْمِلُ في طريقِ الإصلاح الأقلامَ، وهُمْ يُعْمِلون فيها الأقدامَ، وهُمْ يُعْمِلون في الأضرحة المَعاوِلَ، ونحن نُعْمِلُ في بانيها المَقاوِلَ»(١١).

وقال أبو يعلى الزواوي ـ رحمه الله ـ: «وهذا الذي وَقَعَ لنا ـ مَعْشَرَ المُصْلِحين المُخْلِصين ـ في هذا العصرِ كُلَّما نَوَّهْنَا أو نَبَّهْنا إلى خطإٍ أو فسادٍ في العقائد والعوائد أو عارَضْنا المَفاسِدَ والمَعابِد بالباطل، أو ذكَرْنا المِلَلَ والنِّحَل التي تَفرَّعَتْ في الإسلام الذي جاء بالتوحيد؛ قام في وجوهنا فريقٌ مِنَ البُلْهِ الجامدين المُغفَّلين، وخرجوا إلينا بَطَرًا ورِئاءَ الناسِ أنهم يُدافِعون عن الأولياء والصالحين؛ فيَلْبِسون الحقَّ بالباطل ويكتمون الحقَّ وهُمْ يعلمون»(١٢).

وختامًا، لله دَرُّ الشيخ محمَّد البشير الإبراهيميِّ ـ رحمه الله ـ إذ يقول:

«إنَّنا نجتمع مع الوهَّابيِّين في الطريق الجامعة مِنْ سُنَّةِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ونُنْكِرُ عليهم غُلُوَّهم في الحقِّ كما أنْكَرْنا عليكم غُلُوَّكم في الباطل؛ فقَعُوا أو طِيروا؛ فما ذلك بضائِرِنا وما هو بنافِعِكم»(١٣).

قلت: وكذلك هُمْ أهلُ السنَّةِ أتباعُ السلفِ الصالح: لم يكتموا مذهبَهم، وكلمتُهم في الحقِّ ظاهرةٌ، لا يَثْنِيهم عن المُضِيِّ في إظهار الحقِّ وبيانِه أهلُ الخِذلان والتقاعس، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»(١٤).

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢٢ شعبان ١٤٣٠ﻫ
الموافق ﻟ: ١٣ أوت ٢٠٠٩م

 



(١) أخرجه مسلمٌ في «الطهارة» (٢٢٣) مِنْ حديثِ أبي مالكٍ الأشعريِّ رضي الله عنه.

(٢) انظر: «حاشية السنديِّ على النسائي» (٥/ ٨)، و«فيض القدير» للمُناوي (٤/ ٢٩١).

(٣) يجوز تأخيرُ بيانِ الحقِّ إذا اقتَضَتِ المصلحةُ وحالُ الناسِ كتمانَه؛ ولهذا قال عليٌّ رضي الله عنه: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ؟» [أخرجه البخاريُّ في «العلم» بابُ مَنْ خصَّ بالعلم قومًا دون قومٍ كراهيةَ أَنْ لا يفهموا (١٢٧)]، وقال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: «إِنَّكَ لَا تُحَدِّثُ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً» [أخرجه مسلمٌ في «مقدِّمة صحيحه» (١/ ١٠)].

(٤) قال السعيد الزاهري ـ رحمه الله ـ (عضوٌ إداريٌّ في جمعية العلماء المسلمين الجزائريِّين) في ردِّه على وزير المَعارِف بالمغرب الأقصى آنَذاك: «بَقِيَ شيءٌ واحدٌ وهو قولُ الوزير: «إنَّ مُؤسِّسَ هذا المذهبِ هو شيخُ الإسلام ابنُ تيمية، واشتُهر به ابنُ عبد الوهَّاب»، والواقعُ أنَّ مُؤسِّسَ هذا المذهبِ ليس هو ابنَ تيمية ولا ابنَ عبدِ الوهَّاب ولا الإمامَ أحمد ولا غيرَه مِنَ الأئمَّة والعُلَماء، وإنما مُؤسِّسُه هو خاتمُ النبيِّين سيِّدُنا محمَّد بنُ عبد الله صلَّى الله عليه وسلَّم، على أنه في الحقيقة ليس مذهبًا، بل هو دعوةٌ إلى الرجوع إلى السُّنَّة النبوية الشريفة، وإلى التمسُّك بالقرآن الكريم، وليس هنا شيءٌ آخَرُ غيرُ هذا»، [«مجلَّة الصراط السويِّ» (العدد: ٥/ ٥)، الصادرة في ٢٦ جمادى الثانية ١٣٥٢ﻫ ـ ١٦ أكتوبر ١٩٣٣م].

(٥) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٣١٩)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (١٠/ ١١٤)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. قال ابنُ عبد البرِّ في «التمهيد» (٢٤/ ٣٣١): «وهذا ـ أيضًا ـ محفوظٌ معروفٌ مشهورٌ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عند أهل العلم شهرةً يكاد يستغني بها عن الإسناد»، وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٢٩٣٧).

(٦) أخرجه أبو داود (٥/ ١٢) كتاب «السنَّة» بابٌ في لزوم السنَّة، والترمذيُّ (٢٦٧٦) كتاب «العلم» بابُ ما جاء في الأخذ بالسنَّة واجتنابِ البِدَع، وابنُ ماجه (٤٢) في «سننه» بابُ اتِّباع سنَّةِ الخُلَفاء الراشدين، وأحمد (٤/ ١٢٦)، مِنْ حديثِ العرباض بنِ سارية رضي الله عنه. والحديث حسَّنه البغويُّ في «شرح السنَّة» (١/ ١٨١)، وصحَّحه ابنُ الملقِّن في «البدر المنير» (٩/ ٥٨٢)، والألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٢٥٤٩) وفي «السلسلة الصحيحة» (٩٣٧).

(٧) أخرجه البخاريُّ (٢/ ١٢٣) كتاب «فرض الخُمُس»، ومسلمٌ كتاب «الزكاة» (١/ ٤٧١)، مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما.

(٨) أخرجه البغويُّ في «حديث عليِّ بنِ الجعد» (٢٢٣٩)، وابنُ سعدٍ في «الطبقات الكبرى» (٣/ ٥٨)، مِنْ حديثِ كِنانة مولى صفيَّة قال: «رأيتُ قاتِلَ عثمانَ في الدارِ رَجُلًا أَسْوَدَ مِنْ أهل مصر يُقالُ له: جَبَلَةُ باسِطَ يديه ـ أو قال: رافِعَ يديه ـ يقول: أنا قاتِلُ نعثلٍ».

قال ابنُ الأثير في «النهاية» (٥/ ٨٠): «كان أعداءُ عثمانَ رضي الله عنه يُسَمُّونه نعثلًا تشبيهًا برجلٍ مِنْ مصر كان طويلَ اللحيةِ اسْمُه: نعثلٌ، وقيل: النعثلُ: الشيخُ الأحمقُ وذَكَرُ الضِّبَاع».

(٩) «الاعتصام» للشاطبي (٢/ ٢٣٩).

(١١) «آثار الإمام محمَّد البشير الإبراهيمي» (١/ ١٢٣ـ ١٢٤).

(١٢) «الشهاب» (٣/ ٣٥١).

(١٣) «آثار الإمام محمَّد البشير الإبراهيمي» (١/ ١٢٥).

(١٤) أخرجه مسلمٌ كتاب «الإمارة» (١٩٢٠)، مِنْ حديثِ ثوبان رضي الله عنه.