في حكمِ طلبِ الخُلعِ مِنَ المحاكم الفرنسيَّة | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 11 شوال 1445 هـ الموافق لـ 20 أبريل 2024 م



الفتوى رقم: ١٢١٩

الصنف: فتاوى الأسرة ـ انتهاء عقد الزواج ـ الخُلع

في حكمِ طلبِ الخُلعِ مِنَ المحاكم الفرنسيَّة

السؤال:

امرأةٌ فرنسيَّةُ الأصلِ أَسلمَتْ وحَسُنَ إسلامُها، ثمَّ تزوَّجَتْ مِنْ شابٍّ مغربيٍّ مُغترِبٍ على الاستقامة، إلَّا أنه ـ وبعد سَنَةٍ ـ انتكس هذا الشابُّ، وأَصبحَ يتعاطى المُخدِّراتِ ويبيعها، كما أنه يضرب زوجتَه ويُؤذِيها بالكلام، ويسرق منها مالَها، وقد تَرَك الصلاةَ منذ سَنَةٍ، فلمَّا طلبَتْ منه الخُلْعَ رَفَض ذلك وامتنع، وهي ـ الآنَ ـ تبحثُ عن حَلٍّ وتسأل عن حكم الترافع إلى المحاكم الفرنسيَّة في هذه المسألة؟ مع العلم أنه ليس بينهما ولدٌ، وجزاكم اللهُ خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فالمرأة إذا تقدَّم لخِطْبتها مَنْ يظهر مِنْ حالِه أنه طيِّبٌ في سِيرته، مستقيمٌ في دِينه، قائمٌ على إيمانه، مُلتزِمٌ في خُلُقه، قادرٌ على الباءة؛ فإنها تقبل الزواجَ به؛ لقوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ»(١)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ»(٢)، فإِنْ تغيَّرَتْ حالُه ـ لسببٍ أو لآخَرَ ـ وتَحوَّلَ أمرُه فإنه يُنصَحُ عمَّا هو عليه مِنْ إتيانِ المُحرَّماتِ والبغيِ والتعدِّي على أهله ويُزجَرُ، فإِنْ أَبَى إلَّا طريقَ الفساد وإتيانِ المخدِّراتِ وبيعِها وارتكابِ غيرِها مِنَ المحرَّمات ـ إذ المعهودُ أنَّ مَنْ أتى المخدِّراتِ بالتعاطي فقَدْ يأتي بكُلِّ معصيةٍ بعدها؛ فيترك الصلاةَ، ويركب الآثامَ، ويتعدَّى على حُرُمات الله ـ فعلى المرأةِ ـ والحالُ هذه ـ أَنْ تطلب خُلْعَ نفسِها مِنْ هذا الرَّجلِ وترفع أَمْرَه إلى المحاكم الشرعيَّة إِنِ استطاعَتْ إلى ذلك سبيلًا، فإِنْ لم تجد مِنَ المحاكم الشرعيَّة مَنْ بوُسْعها فَكُّ عُقْدة النكاح جازَ لها ـ اضطرارًا ـ أَنْ ترفع أَمْرَها إلى المحاكم الوضعيَّة التي عَقَدَتْ لها العقدَ لتَفُكَّه، سواءٌ كانَتِ المحاكمَ الفرنسيَّةَ أو البلجيكيَّةَ أو غيرَهما إذ فكُّ عقدةِ الزَّواج بينهما لا يتمُّ إلَّا بها، مع قيامِ النكيرِ القلبيِّ لمِثلِ هذا الالتجاء؛ وهذا إذا كان حُكمُ هذه المحاكمِ الوضعيَّة ـ في هذه المسألة ـ مُوافِقًا للحكم الشرعيِّ أوَّلًا، ويقوم القاضي بفسخِ العقد وإنهاءِ العلاقة الزوجيَّة ـ ثانيًا ـ مِنْ دونِ اعتداءٍ على شرع الله ولا عبادِ الله، لأنَّ اللهَ تعالى لا يُحِبُّ المُعتَدِين؛ ويسوغ للمرأة ـ بعد الاستبراء بحيضةٍ ـ أَنْ تتزوَّج مِنْ غيرِه مِنَ الرِّجالِ الأَكْفاء.

ويجدر التنبيهُ ـ هاهنا ـ على أنَّ الخُلع إنما يجوز في حالتين:

ـ الحالة الأولى: أَنْ تكون المرأةُ غيرَ قادرةٍ على العيش مع ذلك الرَّجل لكونها تكرهه كرهًا طبيعيًّا لانتفاء المودَّةِ والرحمةِ بينهما، ولحصولِ التَّنافُرِ بين نَفْسَيْهما؛ لقوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ»(٣)؛ فحتَّى لا تتعدَّى حدودَ الله معه ـ لبُغضِها له أو لعدَمِ قيامه بحقوقها ـ ويظهر ذلك في تركِ طاعته أو ظُلمِه في حقوقه؛ فإنه ـ والحال هذه ـ يجوز لها أَنْ تَفتدِيَ نَفْسَها بردِّ المهر ويُطلِّقها على ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَا[البقرة: ٢٢٩]؛ ولا يجوز له أَنْ يتعسَّف في حقِّها بأَنْ يُعلِّقها، فيجب عليه الطلاقُ في هذه الحال؛ لحديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «جَاءَتِ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَنْقِمُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ، إِلَّا أَنِّي أَخَافُ الكُفْرَ [أي: كفرانَ العشير، وهو تقصيرُ المرأةِ في حقِّ زوجِها]»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» فَقَالَتْ: «نَعَمْ»، فَرَدَّتْ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا»(٤)؛ فإِنِ استجاب وطلَّق فبِهَا ونِعْمَتْ، وإلَّا أَلزمَه القاضي وجوبًا بفكِّ العصمة الزوجيَّة.

ـ الحالة الأُخرى: أَنْ يرتكب الرَّجلُ المَعاصِيَ ولا يتوبَ منها، بل يبقى مُصِرًّا عليها؛ فقَدْ قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ»(٥)، يعني السيِّئاتِ وأهلَها، فإذا رأَتِ المرأةُ مِنْ زوجها هذه المَعاصِيَ مِنْ ترك الصلاةِ وشُرْبِ الخمور وتعاطي المُخدِّرات وغيرِها مِنَ الآثام والمُحرَّمات، ولم تُجْدِ الموعظةُ والنصيحةُ نفعًا؛ فلها ـ والحالُ هذه ـ أَنْ تطلب خُلْعَ نَفْسِها.

أمَّا إذا استقام الرَّجلُ بعد نصيحته ورَجَع وأَصلحَ، وكان صادقًا في توبته النصوح، فإِنْ كان قبل الخُلع فلها أَنْ تُسقِطَه وتتخلَّى عن المطالبة به وتعودَ إلى زوجها إِنْ بَقِيَ بينهما شيءٌ مِنَ المَودَّة.

أمَّا إذا وَقَع الخُلعُ وفُكَّتِ العلاقةُ الزوجيَّة به، فإِنْ رأَتِ المرأةُ أنَّ بإمكانها العيشَ معه مرَّةً أخرى بعد رِضَاها باستقامته وبقاءِ مَوَدَّتِها له فإنه يَلْزَمُه عقدٌ ومهرٌ مِنْ جديدٍ لِتعودَ الزوجةُ إليه.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٠٨ ربيع الثاني ١٤٣٩هـ
الموافق ﻟ: ٢٦ ديســـمبر ٢٠١٧م

 



(١) أخرجه الترمذيُّ في «النكاح» بابُ ما جاء: إذا جاءكم مَنْ ترضَوْن دِينَه فزوِّجوه (١٠٨٤)، وابنُ ماجه في «النكاح» باب الأَكْفاء (١٩٦٧)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه؛ وأخرجه الترمذيُّ (١٠٨٥) مِنْ حديثِ أبي حاتمٍ المُزَنيِّ رضي الله عنه. وحسَّنه الألبانيُّ في «الإرواء» (١٨٦٨) وفي «صحيح الجامع» (٢٧٠).

(٢) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «النكاح» بابُ قولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيتزوَّجْ» (٥٠٦٥) وباب: مَنْ لم يستطعِ الباءةَ فلْيَصُمْ (٥٠٦٦)، ومسلمٌ في «النكاح» (١٤٠٠)، مِنْ حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه.

(٣) أخرجه البخاريُّ في «أحاديث الأنبياء» باب: الأرواحُ جنودٌ مُجنَّدةٌ (٣٣٣٦) مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها، ومسلمٌ في «البِرِّ والصِّلَة والآداب» (٢٦٣٨) مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

(٤) أخرجه البخاريُّ في «الطلاق» باب الخُلعِ وكيف الطلاقُ فيه؟ (٥٢٧٣، ٥٢٧٦) مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.

(٥) أخرجه ابنُ حِبَّان في «صحيحه» (١٩٦) مِنْ حديثِ عبد الله بنِ عمرو بنِ العاص رضي الله عنهما. وصحَّحه الألبانيُّ في «التعليقات الحسان» (١٩٦).