الجواب على الاعتراض بأنَّ علَّةَ الحكم في الحديث مركَّبةٌ مِنْ وصفين | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م

قال المُعترِض: «أَوَّلها: أنَّه نصَّ على أنَّ عِلَّةَ الحديث منصوصٌ عليها، وهي: «الانفراد»، و«خلف الصفِّ»، وهما وصفان مجتمعان، لا يُفصَل أحَدُهما عن الآخَرِ، ويعني: بطلانَ صلاةِ المنفرد حالَ كونِه خلف الصفِّ....  للمزيد

الفتوى رقم: ١٢٩٩

الصنف: فتاوى الصلاة ـ صلاة الجماعة

الجواب على الاعتراض
بأنَّ علَّةَ الحكم في الحديث مركَّبةٌ مِنْ وصفين

اعتراض:

قال المُعترِض: «أَوَّلها: أنَّه نصَّ على أنَّ عِلَّةَ الحديث منصوصٌ عليها، وهي: «الانفراد»، و«خلف الصفِّ»، وهما وصفان مجتمعان، لا يُفصَل أحَدُهما عن الآخَرِ، ويعني: بطلانَ صلاةِ المنفرد حالَ كونِه خلف الصفِّ.

وجوابُه مِنْ وجوهٍ:

أوَّلها: أنه ذَكَر سابقًا: أنَّ العلَّةَ منصُوصٌ عليها؛ وهي: الانفراد، و«خلف الصَّفِّ»؛ فهي مشتركةٌ بينهما مُجتمِعَتَيْن.

الثاني: أنَّ التَّحقُّق إنَّما يكون في هذين الوصفين مُجتمِعَين معًا؛ وهما: «فرد»، و«خلف الصَّفِّ»؛ لأنَّ لهما تأثيرًا في الحكم؛ وليس الانفرادُ وَحْدَه؛ ولهذا، لا ينبغي التحقُّقُ مِنْ وصفٍ وإهمالُ الوصفِ الآخَرِ.

ولأنَّ العلَّةَ المنصوصَ عليها في كِلَا الحديثين هي: «فرد»، و«خلف الصفِّ»؛ ولفظ العامِّ هو: «فرد» فقط.

والعلَّة المنصوصة تُوجِبُ الأخذَ بها والوقوفَ عندها، وعدَمَ تَجاوُزِها إلى غيرها.

فتحقيق اللفظ العامِّ الذي هو «فرد» على أفراده هو: فردَان، وأفرادٌ؛ لكن مقيَّدٌ بلفظِ: «خلف الصفِّ» لأنه مُتعلِّقٌ به؛ لا يمكن فصلُه عنه كما تقدَّم.

وتوضيحه:

لا صلاةَ لفردٍ خلف الصفِّ؛ ولا صلاةَ لفردٍ خلف الفرد السابق، ولا صلاةَ لفردٍ خلف الفرد الثاني...؛ وهكذا غير مُنتظِمِين؛ كما تقدَّم توضيحُ شيخِ الاسلام ابنِ تيمية لصلاة المُنفرِدين خَلْفَ الصفِّ.

الثالث: أنَّ لفظ: «خلف الصفِّ» شبهُ جملةٍ، متكوِّنٌ مِنْ «خلف»، وهو ظرفُ مكانٍ، وهو مُضافٌ؛ و«الصفِّ» بالإفراد ـ والمرادُ به: الجنسُ ـ: مُضافٌ إليه؛ وشبهُ الجملة متعلِّقٌ ﺑ «الفرد» كما تقدَّم.

والظرف لا بُدَّ له مِنْ مُتعلَّقٍ؛ لأنه يدلُّ على معنًى يتعلَّق ويرتبط بمعنى الفعل الذي يدلُّ على حدثٍ في الزمان أو المكان.

قال ابنُ هشامٍ في «مغني اللبيب» (٥٦٦): «لا بُدَّ مِنْ تعلُّقهما (يعني: الظرف، والجارَّ والمجرور) بالفعل أو ما يُشبِهُه، أو ما أُوِّل بما يُشبِهُه، أو ما يشير إلى معناه؛ فإِنْ لم يكن شيءٌ مِنْ هذه الأربعةِ موجودًا قُدِّرَ».

ﻓ «خلف الصفِّ» متعلِّقٌ ﺑ «فرْد»؛ فلا يمكن فصلُه عنه؛ لأنَّ ارتباطَ شبهِ الجملة «خلف الصفِّ» به.

فإذا قُلنا: «لا صلاةَ لفردٍ» دلَّتْ هذه الجملةُ على معنًى تامٍّ مُسْتقِلٍّ.

وإذا قُلنا: «لا صلاةَ لفردٍ خلف الصفِّ» دلَّ الظرفُ هنا على معنًى متعلِّقٍ بصلاة الفرد؛ وأضاف معنًى جديدًا؛ وهو: لا صلاةَ لمنفردٍ حالَ كونِه خلفَ الصفِّ؛ لهذا لا يجوز إهمالُه ولا إلغاؤه.

كما لو قلنا: «صلَّى زيدٌ خلفَ السارية»؛ فإذا قُلنا: «صلَّى زيدٌ» كانت الجملةُ تامَّةً مُستقِلَّةً؛ لكن إذا قُلنا: «صلَّى زيدٌ خلف السارية» دلَّ الظرفُ على معنًى جديدٍ متعلِّقٍ بالفعل: «صلَّى».

وأيضًا فلفظُ: «فرد» عامٌّ، عقبه بذكرِ صفةٍ خاصَّةٍ، وهي: «خلف الصفِّ»؛ فلا بُدَّ مِنَ النظر في الوصفين عند بناء الحكم؛ وإلَّا كان الوصفُ الثاني هذرًا بلا فائدةٍ؛ وهو منزَّهٌ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ وإذا لَزِم النظرُ في الوصف الثاني لَزِم التقيُّدُ به.

وهذا كقوله: «في الغنمِ السائمة زكاةٌ»؛ فلفظُ «الغنم» عامٌّ في «السائمة» وفي غيرها؛ لكنَّ تعقيبَه بذكرِ صفةٍ خاصَّةٍ وهي «السائمة» يفيد عدمَ وجوبِ الزكاة في المعلوفة؛ فتقييدُه بالسائمة قَصَد به نفيَ الحكمِ عن المعلوفة؛ وإلَّا لكان التقييدُ هذْرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالَمِين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فيمكنُ الرَّدُّ على هذا الجوابِ المُسْهَب بما يأتي:

إنَّ حَصْرَ تعليلِ حديثِ وابصةَ رضي الله عنه في وصفين: «فَردٍ» و«خَلْفَ الصَّفِّ» غيرُ مُستوفٍ، لأنَّ المَعلومَ أنَّ المُجتهِدَ ينبغي أَنْ يحصرَ جميعَ الأوصافِ المَوجودةِ في الأصلِ المُحتمِلةِ للتَّعليلِ وهو المُعبَّرُ عنها ﺑ: «التَّقسيم»، وهذا لم يتمَّ له تحقيقُ النَّتيجةِ اكتفاءً بالوصفين المَذكورين ـ على ما صرَّح به ـ دون مراعاةِ بقيَّةِ الأوصاف الأخرى الَّتي يُمكن إضافتُها إلى الوصفين السابقين، مثل وصفِ: «كونه ذَكَرًا»، و«كونِه يُصلِّي جماعةً»، و«كونِه في المَسجدِ»، ثمَّ يُنقِّحُ المَناطَ ويَختبِرُ الأوصافَ واحدًا تِلوَ الآخَرِ في صلاحِيَتِهِ للتَّعليلِ وإبطالِ ما لا يصلحُ له، فيُعيِّنُ الوصفَ المُناسِبَ المُؤثِّر على الحُكمِ مِنَ المُناسِبِ غيرِ المُؤثِّر على وجهِ السَّبْرِ، مع مراعاةِ الفَرْقِ بين الوَصْفِ المُرتبِطِ بالحُكمِ والوصفِ المُرتبِطِ بمحَلِّ الحُكمِ أو مُتَعلَّقِهِ.

فإذا حقَّقْنا النَّظرَ في مناسبةِ الوصف للحكمِ وجَدْنا أنَّ الشَّريعةَ عُنِيَتْ بأمرِ صلاةِ الجماعةِ عنايةً كبيرةً، ونَوَّهَتْ بأهمِّيَّتِها وفضلِها، وأَمَرَتْ بإقامتِها على وجهِ الاجتماعِ والاصطفافِ، وشَدَّدَتْ في مخالفتِها، ووجَدْنا صورةَ صلاةِ الفذِّ الذَّكَرِ لا يتحقَّق فيها معنى الجماعة المَطلوبةِ والمُؤكَّدةِ شرعًا، وإنَّما تخالفها، فأَدرَكْنا ـ والحالُ هذه ـ أنَّ وصفَ صلاةِ الفذِّ وَحْدَه في الجماعةِ هو الوصفُ المُناسِبُ المُؤثِّرُ على الحكم بالمَنْعِ والإبطال، لأنَّ الحكمَ الشَّرعيَّ إنَّما يتعلَّقُ بفعلِ المكلَّفِ ـ وهي صلاتُه مُنفرِدًا ـ ولا يتعلَّق بالأعيانِ ولا بالذَّواتِ، هذا مِنْ جهةٍ، ولعدمِ مراعاةِ جماعة المُسلمين في الصَّلاةِ بصورةٍ مُطلَقةٍ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ سواءٌ أكان خلفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، أو وَحْدَهُ بين صفَّيْنِ، أو وَحْدَه وراءَ الإمام وقبل الصَّفِّ، علمًا أنَّ وصفَ «خَلْف الصَّفِّ» إنَّما هو واردٌ في محلِّ الحكمِ ومُتعلَّقِهِ لا في ذاتِ الحُكم أي: أنَّهُ يتعلَّق بمحلِّ الحُكم وهو الفَردُ الذَّكَرُ ولا يتعلَّقُ بحُكم النَّهي والإبطال، ذلك لأنَّ «خَلْفَ الصَّفِّ» لا يقوم وصفًا مُستقِلًّا في ذاتِه لتَعلُّقه بالفَذِّ الَّذي يرتبطُ به الحكمُ وهو المَطلوبُ، سواءٌ وُجِد وصفُ «خَلْفَ الصَّفِّ» أو انتفى، وذِكرُه في الحديثِ إنما هو لوقوعِ الحادثة به، ولأنَّ الصورةَ التي يقعُ الانفرادُ عليها ـ غالبًا ـ هي خَلفَ الصَّفِّ .

وهذا هو مناطُ الحكمِ الَّذي استنبطَه أو حقَّقه الإمامُ أحمد ـ رحمه الله ـ حيث نقل ابنُ القيِّمِ ـ رحمه الله ـ عنه أنَّه قال: «إذا صَلَّى بين الصَّفَّيْن وَحْدَه يُعيدُها، لأنَّه فَذٌّ وإِنْ كان بين الصَّفَّيْنِ»(١)، واكتفى ـ رحمه الله ـ بهذا الوصف ـ كما ترى ـ لكونه وصفًا مناسبًا ومؤثِّرًا على الحكم، ولم يقيِّده ﺑ «خلف الصَّفِّ».

وما ذكَرَه المُعترِضُ في مثالِ ابنِ تيميَّة ـ رحمه الله ـ إنَّما هو حجَّةٌ عليه لا له، إذ فيه فردٌ خَلْفَ فردٍ، لا فردٌ خلف الصفِّ، فهو ليس تفسيرًا لقوله: «خلفَ الصَّفِّ»، بل هو دليلٌ على أنَّه ليس قيدًا، وأنَّه إذا كان الفردُ خلفَ الصَّفِّ لا صلاةَ له ويُؤمَرُ بالإعادة فالفردُ خلفَ الفردِ كذلك بلْ أَوْلى منه.

ومثلُه ـ أيضًا ـ لو اعتبَرْنا وَصْفَ «كونه في المسجد» لَتَعَلَّقَ الحكمُ ـ هو الآخَرُ ـ بمحلِّ الحُكمِ وهو فعلُ الفَردِ الذَّكَرِ، لا بذاتِ الحُكمِ وهو النَّهيُ والإبطال، لكونه وصفًا غيرَ مُستقِلٍّ، وعليه نُثبِتُ حُكْمَ النَّهيِ والبطلانِ لصلاة الفذِّ وَحْدَه دون الجماعة، سواءٌ كان داخِلَ المسجدِ أو خارِجَه، وإِنْ كان وقوعُ الانفرادِ في المسجد هو الغالبَ.

لكِنْ ـ كما هو معلومٌ ـ فإنَّ سوءَ تصوُّرِ مسألتَيْ صلاةِ المنفرد وصلاةِ التباعد، وضَعْفَ توظيفِ القواعدِ على وجهها الصَّحيحِ، وعدمَ التَّحريرِ الدَّقيقِ لبعض المسائل لَهي مِنْ أهمِّ أسبابِ التَّناقضِ والاختلافِ.

ولا شكَّ أنَّ مَنْ قال بصحَّةِ التَّباعدِ للضرورةِ بناءً على اعتقاده تحقُّقَ شرطِها كان أَقْعَدَ في الفقه وأجرى على قواعد العلم مِمَّنْ يؤصِّل لصحَّةِ التَّباعد بناءً على أنه ليس صلاةَ منفردٍ.

والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالَمِين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١ ذي القَعدة ١٤٤٣هـ
الـموافق ﻟ: ١ جـــــــوان ٢٠٢٢م



(١) انظر: «بدائع الفوائد» لابن القيِّم (٣/ ٨٧).