في شفاعة النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم فيمَنِ استحقَّ دخولَ النَّارِ مِنْ أهل القِبلة أَنْ لا يدخلَها | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الأربعاء 15 شوال 1445 هـ الموافق لـ 24 أبريل 2024 م

الفتوى رقم: ١٣٢٣

الصنف: فتاوى العقيدة

في شفاعة النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم
فيمَنِ استحقَّ دخولَ النَّارِ مِنْ أهل القِبلة أَنْ لا يدخلَها

السؤال:

هل ثبتَتْ شفاعةُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم فيمَنِ استحقَّ دخولَ النَّارِ أَنْ لا يدخلَها، وهل يصحُّ الاستدلالُ بحديثِ أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قال: «.. فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا الرُّسُلُ، وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ»؟  وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلام على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فالنَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم له شفاعتان:

· شفاعةٌ خاصَّةٌ به صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: مثل الشَّفاعةِ العُظمى في أهل المَوقِفِ حتَّى يُقضَى بينهم، وشفاعتِه لأهل الجنَّة مِنْ أُمَّتِه وغيرِهم في الإذن لهم في دخولها، وشفاعتِه في تخفيف العذاب عن عمِّه أبي طالبٍ، وشفاعتِه في رفع درجةِ قومٍ مِنْ صالِحِي أهل الجنَّة.

· وشفاعةٌ عامَّةٌ ومُشترَكةٌ بينه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم وبين الرُّسُل والأنبياءِ أو عامَّةِ المؤمنين: كالشَّفاعة في المرور على الصِّراط والسَّلامةِ فيه مِنَ الوقوع في النَّار أو الإصابةِ بالحَسَك والكلاليب ـ وهذه مِنَ الأنبياء ـ(١)، والشَّفاعةِ فيمَنْ دخَلَ النَّارَ مِنَ الموحِّدين أَنْ يخرج منها، والشَّفاعةِ في قومٍ تَساوَتْ حسناتُهُم وسيِّئاتُهم، والشَّفاعةِ في بعضِ مَنِ استحقَّ دخولَ النَّارِ ألَّا يدخلها؛ وقد أثبتَ هذه الشفاعةَ الأخيرةَ كثيرٌ مِنْ أهل العلم ومنهم ابنُ تيميةَ ـ رحمه الله ـ في «الواسطيَّة»(٢)، وأمَّا ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ فقد قال: «وهذا النَّوعُ لم أقف إلى الآن على حديثٍ يدلُّ عليه، وأكثرُ الأحاديثِ صريحةٌ في أنَّ الشَّفاعةَ في أهل التَّوحيد مِنْ أرباب الكبائرِ إنَّما تكون بعد دُخُولهم النَّارَ، وأمَّا أَنْ يُشْفَع فيهم قبل الدُّخولِ فلا يدخلون فلَمْ أَظْفَرْ فيه بِنصٍّ»(٣).

ويمكن أَنْ يُستدَلَّ للشَّفاعة فيمَنِ استحقَّ النَّارَ أَنْ لا يدخلَها، أو لرفعةِ درجةِ الصَّالحين مِنَ المؤمنين بعمومِ دعاءِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم لموتى المؤمنين بالمغفرة والتَّجاوز والرَّحمة ورفعِ الدَّرجة بنحوِ قوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم في أخيه مِنَ الرَّضاع أبي سَلَمةَ رضي الله عنه لمَّا تُوُفِّيَ بعد مُنصَرفِه مِنْ أُحُدٍ: «اللهم اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي المَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ»(٤)، ويشاركه في هذه الشَّفاعةِ غيرُه بدليلِ قوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئًا إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ»(٥)، فإنَّ هذه شفاعةٌ قبل أَنْ يدخل النَّارَ، فيقبل اللهُ تعالى ذلك منهم للميِّت ببَرَكةِ دُعائِهم وشفاعتهم، غيرَ أنَّ الذي قد يُعكِّر على هذه الشَّفاعةِ كونُها دُنيويَّةً(٦)، بخلاف الشَّفاعات الأخرى فهي أُخرويَّةٌ، لذلك اقتصر بعضُ العلماء على ذِكر الشَّفاعات الأخرويَّة للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم.

هذا، وقد ذهَبَ بعضُ أهلِ العِلمِ إلى إثباتِ هذا النَّوعِ مِنَ الشَّفاعةِ بقوله: «وقد يُسْتَدَلُ لهؤلاء ـ يعني يُستدَلُّ لهذا النَّوع مِنَ الشَّفاعة ـ بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «شَفاعَتِي لِأَهلِ الكَبائرِ مِنْ أُمَّتي»(٧)، فأَثبتَ عليه الصَّلاةُ والسَّلام شفاعتَه في أهلِ الكبائرِ، ومعلومٌ أنَّ أهلَ الكبائرِ يَشمَلُ مَنِ استحقَّ النَّارَ ممَّنْ دخَلَ أو لم يدخُلْ، فقوله: «شَفاعَتِي لِأَهلِ الكَبائرِ مِنْ أُمَّتي» فيها شمولٌ لِمَنْ دَخَل ولِمَنْ لم يدخُل، فيُسْتَدَلُّ بعمومِ هذا الحديثِ على صحَّةِ هذا النَّوعِ مِنَ الشَّفاعةِ»(٨).

وأمَّا الاستدلالُ بحديثِ أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قال «.. فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا الرُّسُلُ، وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟»»(٩)، فهذه شفاعتُه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم ـ هو والأنبياءُ عليهم السَّلامُ ـ في السَّلامةِ في المُرورِ على الصِّراطِ حيث تنطقُ الرُّسُلُ بهذا الشِّعار: «اللهم سَلِّمْ سَلِّمْ»، يَدْعون للمؤمنين بالسَّلامة مِنَ السُّقوطِ في النَّار ومِنَ الأذى بالحَسَك والخطاطيف والكلاليبِ التي كشَوكِ السَّعدان، وقد ثبَتَ عنه مرفوعًا: «.. ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ»(١٠).

والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٩ مِنْ ربيعٍ الآخِر ١٤٤٤هـ
المُـــوافق ﻟ: ١٣ نـــــوفـمبر ٢٠٢٢م



(١) لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم في حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه: « وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا الرُّسُلُ، وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ » قَالُوا: «نَعَمْ»، قَالَ: «فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو» [انظر تخريجه في (الهامش ٩)].

وقولِه في حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه: «وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ» قِيلَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْجِسْرُ؟» قَالَ: «دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكٌ تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ: لَهَا السَّعْدَانُ، فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» [انظر تخريجه في (الهامش ١٠)].

(٢) «العقيدة الواسطيَّة» لابن تيميَّة (١٠٥)

(٣) «تهذيب السُّنَن» لابن القيِّم (١٣/ ٥٥) مطبوعٌ بحاشيةِ «عون المعبود».

(٤) أخرجه مسلمٌ في «الجنائز» (٩٢٠) مِنْ حديث قَبيصةَ بنِ ذُؤَيْبٍ عن أمِّ المؤمنين أمِّ سَلَمةَ هند بنتِ أبي أُمَيَّةَ المخزوميَّةِ رضي الله عنها.

(٥) أخرجه مسلمٌ في «الجنائز» (٩٤٨) مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.

(٦) انظر: «شرح الواسطيَّة» لابن العثيمين (٢/ ١٧٧).

(٧) أخرجه الترمذيُّ في «صفة القيامة» (٤/ ٦٢٥) بابُ ما جاء في الشفاعة (٢٤٣٥) مِنْ طريقِ معمرٍ عن ثابتٍ عن أنسٍ رضي الله عنه، وهو في «مُسنَد أحمد» (١٣٢٢٢)، وفي «صحيح ابنِ حِبَّان» (٦٤٦٨)، والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح سنن الترمذي» (٢/ ٥٨١) وفي «ظلال الجنَّة» (٣٨٥).

(٨) «شرح العقيدة الواسطيَّة» لصالح آل الشيخ (٢/ ٧١).

(٩) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الأذان» بابُ فضلِ السجود (٨٠٦) وفي «الرِّقاق» باب: الصراطُ جسرُ جهنَّم (٦٥٧٣) وفي «التوحيد» بابُ قولِ الله تعالى: ﴿وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ ٢٢ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ ٢٣[القيامة] (٧٤٣٧)، ومسلمٌ في «الإيمان» (١٨٢)، وابنُ حِبَّان «صحيحه» (٧٤٢٩)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

(١٠) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «التوحيد» باب قول الله تعالى: ﴿وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ ٢٢ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ ٢٣[القيامة] (٧٤٣٩)، ومسلمٌ ـ واللفظُ له ـ في «الإيمان» (١٨٣)، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه، وأَخرجَ بعضَ هذا الحديثِ ـ أيضًا ـ البخاريُّ (٢٢، ٦٥٦٠)، ومسلمٌ (١٨٤، ١٨٥، ٢٨٢٩).

وانظر ـ لفهمِ هذه الأحاديثِ على الراجح مِنْ تفسيراتِ أهل العلم ـ: الفتاوى (١١٥٢، ١١٦٥، ١١٦٧) المتعلِّقةَ بمسألةِ تركِ العمل بالكُلِّيَّة وتضييعِ الأعمال.