في حكم القيام مِنْ مَقعدٍ في وسائل النَّقلِ لِيَجلس فيه الكبيرُ | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 18 شوال 1445 هـ الموافق لـ 27 أبريل 2024 م

الفتوى رقم: ١٣٥٢

الصنف: فتاوى متنوِّعة ـ الآداب

في حكم القيام مِنْ مَقعدٍ في وسائل النَّقلِ لِيَجلس فيه الكبيرُ

السؤال:

هل يجوز ـ في وسائل النقل مِنْ حافلةٍ أو قطارٍ وغيرِهما ـ مخالفةُ نهيِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم عن القيام للعباد، وصورتُه ـ مثلًا ـ القيامُ مِنْ مَقعدٍ لِيَجلسَ فيه كبيرُ السِّنِّ؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فينبغي التَّفريقُ بين القيامِ للتَّعظيم والتَّبجيل والتَّوقيرِ، وبين القيامِ مِنْ أجلِ مساعدةِ محتاجٍ وإعانته؛ أو إسعافِ مريضٍ وإغاثتِه.

فالأوَّلُ هو الذي ورَدَ فيه النَّهيُ، فعن أبي مِجْلَزٍ قال: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَامِرٍ رضي الله عنهم، فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ وَجَلَسَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِابْنِ عَامِرٍ: «اجْلِسْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم يَقُولُ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»»(١)، وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: «مَا كَانَ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ»(٢).

فهذا النَّهيُ عن القيام الَّذي يرادُ منه تعظيمُ القادمِ وتوقيرُه.

أمَّا القيامُ مِنْ أجل الإعانةِ والإسعافِ لِيَجلسَ مَنْ يضرُّه القيامُ في مكانه لوجود سببٍ: كالعجز أو الكِبَر أو المرض ونحوِ ذلك، فهذا إنَّما يدخل في معنَى قولِه تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ[المائدة: ٢]، وقد ورَدَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم أنَّه أَرسلَ إلى سيِّدِ الأوسِ سعدِ بنِ معاذٍ الأشهليِّ رضي الله عنه لمَّا نزَلَ حُلَفاؤُه مِنْ يهودِ بني قُرَيْظةَ على حُكمهِ؛ وظنُّوا أنه لا يحكمُ بقتلِهم ـ وكان قد أُصِيبَ بسهمٍ في رجلهِ يومَ الخَندَقِ ـ، فأُتِيَ به على حمارٍ عليه إكافٌ مِنْ لِيفٍ، قد حُمِل عليه، فلمَّا رآه رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قال: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ [فَأَنْزِلُوهُ]»(٣).

لذلك يُستحَبُّ للقادرِ ـ في حدودِ ما أذِنَ فيه الشَّرعُ وأجازَه ـ تركُ مكانِهِ لكبير السِّنِّ والعاجزِ، رفقًا بحاله وإعانةً له على توفيرِ سببِ الرَّاحة، وهو مأجورٌ عليه، ويدخلُ ذلك في باب حُسنِ معاملةِ النَّاس والتَّأدُّب معهم والإحسانِ إليهم، ففي حديثِ عبد الله بنِ عمر رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ»(٤)، «أي: أشرفُهم(٥) عنده: أكثرُهم نفعًا للنَّاس بنعمةٍ يُسدِيها أو نقمةٍ يَزوِيها عنهم، دِينًا أو دُنْيَا»(٦).

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٠١ مِنَ المحرَّم ١٤٤٥ﻫ
الموافق ﻟ: ١٩ يوليو ٢٠٢٣م



(١) أخرجه أبو داود في «أبواب النوم» (٥٢٢٩) بابٌ في قيام الرَّجل للرَّجل، والترمذيُّ في «أبواب الأدب» (٢٧٥٥) بابُ ما جاء في كراهِيَةِ قيام الرَّجل للرَّجل، وأحمد في «مُسنَده» (١٦٨٣٠، ١٦٨٤٥، ١٦٩١٨). وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٣٥٧).

(٢) أخرجه الترمذيُّ في «أبواب الأدب» (٢٧٥٤) بابُ ما جاء في كراهِيَةِ قيام الرَّجل للرَّجل، وأحمدُ في «مُسنَده» (١٢٣٤٥، ١٢٣٧٠، ١٢٥٢٦، ١٣٦٢٣)، والبخاريُّ في «الأدب المُفرَد» (٩٤٦). وصحَّحه الألبانيُّ في تحقيقِ «المشكاة» للتبريزي (٤٦٩٨).

(٣) مُتَّفَقٌ عليه دون الأمر بالإنزال: أخرجه البخاريُّ في «الجهاد والسِّيَر» (٣٠٤٣) باب: إذا نزَلَ العدوُّ على حُكمِ رَجلٍ، ومسلمٌ في «الجهاد والسِّيَر» (١٧٦٨) بابُ جوازِ قتالِ مَنْ نقَضَ العهدَ، مِنْ حديثِ أبي أمامةَ بنِ سهل بنِ حُنَيْفٍ عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنهم، واللفظُ المرفوعُ بتمامه لأحمد في «مُسنَده» (٢٥٠٩٧)، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها، وانظر: «السلسلة الصحيحة» للألباني (١/ ١٤٣) رقم: (٦٧).

(٤) أخرجه الطبرانيُّ في «المُعجَم الكبير» (١٣٦٤٦)، والحديث قوَّاه بالشواهدِ السخاويُّ في «المقاصد الحسَنَة» (٣٢٥)، والألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٩٠٥).

(٥) إن كانَ الشَّارحُ يَقصِدُ بالشَّرفِ تفسيرَ محبَّةِ اللهِ تعالى؛ فهذا تَعطيلٌ لها، بل هو تفسيرٌ باللَّازمِ، وليس هو مِنْ مذهبِ السَّلفِ، الَّذين يُثبتونَ صفةَ المَحبَّةِ للهِ تعالى حقيقةً على ما يليقُ بجَلالهِ سُبحانَه.

وإن كانَ يقصِدُ أنَّ الشَّرفَ مِنْ آثارِ المَحبَّةِ، ومِنْ لوازمِها مع إثباتِ المَحبَّةِ لله، فهذا حقٌّ، فإنَّ اللهَ تعالى إذا أحبَّ عبدًا يُكرمُه، ويُشرِّفهُ، ويُنعمُ عليه، ويَنصرُه، ويجزيهِ، ويُريدُ له الخيرَ، ويَهديهِ إليهِ.

(٦) «فيض القدير» للمناوي (٣/ ٤٨١).