في مجالِ الإنكارِ العلنيِّ، ومسألةِ اتِّباعِ الأعلمِ | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 11 شوال 1445 هـ الموافق لـ 20 أبريل 2024 م

 فإنَّ الإنكارَ على وُلَاةِ الأمرِ إنَّما يكونُ على جميعِ الأخطاءِ والمُخالفاتِ والمُنكَراتِ الَّتي وقعوا فيها أو أَذِنوا بها أو أمَرُوا بها ـ ولو باجتهادٍ منهم وتأويلٍ...  للمزيد

الفتوى رقم: ١٢٨٢

الصنف: فتاوى منهجية

في مجالِ الإنكارِ العلنيِّ، ومسألةِ اتِّباعِ الأعلمِ

السُّؤال:

أرجو منكم ـ حَفِظكم اللهُ ـ الجوابَ على السُّؤالين الآتيَيْن:

ـ الأوَّل: فبغضِّ النَّظر عن انتقادِ المُنتقِدِينَ لفتوى الإنكارِ العَلَنيِّ على الحاكمِ، فهلِ الإنكارُ عليه ـ إِنْ لم يَسَعْ وعظُهُ سِرًّا ـ أَنْ يَعِظَهُ عَلنًا في كُلِّ الحالاتِ، سواءٌ فيما يفعله ممَّا فيه طمسٌ لِمَعالِم الدِّين وتغييرٌ لمَنارِ الشَّرع، وفيما يفعله ممَّا يخدِشُ في تَديُّنِهِ وتقواهُ كالسَّطوِ على المَالِ العامِّ ونحوه، فهل يُنكَر عليه عَلنًا بالشُّروطِ والضَّوابطِ في كِلَا الحالين أم يَقتصِرُ ذلك على الأوَّل دون الثَّاني؟

ـ الثاني: هل نازلةُ «كورونا» يَسُوغُ فيها للمتَّبِعِ تقليدُ الأعلَمِ إذا تَكافأَتْ ـ عنده ـ أدلَّةُ المُجتهدِينَ وحِيلَ بينه وبين التَّرجيح؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فبخصوص السُّؤالِ الأوَّلِ، فإنَّ الإنكارَ على وُلَاةِ الأمرِ إنَّما يكونُ على جميعِ الأخطاءِ والمُخالفاتِ والمُنكَراتِ الَّتي وقعوا فيها أو أَذِنوا بها أو أمَرُوا بها ـ ولو باجتهادٍ منهم وتأويلٍ، بعد تحقُّقِ كونِها مُنكَرًا مُخالِفًا للشَّرع ـ وهذا الأَصلُ العظيمُ مِنْ أُصولِ الدِّينِ المُتمثِّلُ في «الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكرِ» يَدخلُ تَحتَ عُمومِ الكَلِمةِ الطَّيِّبةِ، وفي الصَّحيحَينِ: «الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ»(١)؛ ولا يخفى أنَّ الإنكارَ والتَّغييرَ للمُنكَرِ والنَّهيَ عنه مُناطٌ بالاستِطاعةِ وتحصيلِ الغايةِ منه دون إحداثِ مُنكَرٍ أَكبرَ منه؛ وتذكيرُهم ونُصحُهم ـ عند القُدرةِ ـ إنَّما يكون برِفقٍ وحِكمةٍ ولِينٍ ولُطفٍ؛ والأصلُ في وعظِهم أَنْ يكون سِرًّا عند الإمكانِ مِنْ غير تشنيعٍ ولا توبيخٍ ولا فضحٍ بالطُّرُق التي سبَقَ ذِكرُها في مقالاتي وفتاوايَ ـ في هذا الباب ـ على الموقع، فإنَّ الغايةَ مِنْ ذلك تَكمنُ في إزالةِ المُنكَرِ واستصلاحِ الفاعلِ ـ حاكمًا كان أو محكومًا ـ تلطُّفًا بهم وإرادةً للخير لهم مِنْ أَقرَبِ طريقٍ لا في تأنيبِهم وفضحِهم والتَّشنيعِ عليهم؛ فإِنْ لم يُمكِنْ وعظُهم سِرًّا في إزالةِ مُنكَرٍ وقعوا فيه عَلَنًا، وغلَبَ على الظَّنِّ تحصيلُ الخيرِ بالإنكارِ العلنيِّ مِنْ غيرِ أَنْ تترتَّب عليه أيُّ مفسدةٍ؛ فإنه يجوز ـ والحالُ هذه ـ نصيحتُهم والإنكارُ عليهم علنًا دون هتكٍ ولا تعييرٍ، جمعًا بين نصوص الأحاديث؛ كما أنَّه إذا كانت النَّصيحةُ لا تأتي بثَمرتِها المَرجوَّةِ بالكفِّ عن المُنكَرِ ـ لا سِرًّا ولا علنًا ـ وكان في بذلها لفاعلِ المُنكَرِ ما يزيد الشَّرَّ بإمعانه في مُنكَرِه أو مصيرِه إلى أَشَرَّ منه، أو كان ذلك مُنتهى اجتهادِه ولم يقتنع بوجهةِ نظرِ النَّاصح، فتركُ النَّصيحةِ له هنا هو الواجبُ، حيث لا تنفع الذِّكرى؛ لقوله تعالى: ﴿فَذَكِّرۡ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكۡرَىٰ ٩[الأعلى]؛ وإِنْ خُشِيَ مِنْ إظهارِ السُّكوتِ عن حكمِ الفعل أَنْ يغترَّ به غيرُه فيظنَّ السُّكوتَ إقرارًا وأنَّه سائغٌ: بيَّن حُكْمَه لهم دون إثارتِهم أو تهيِيجِهم على الفاعل، خاصَّةً إِنْ كان حاكمًا أو عالمًا لعظيمِ حقِّهما، ولا يَمنعه ذلك مِنَ البيان، فالحقُّ أحقُّ أَنْ يُتَّبَع وأَعَزُّ علينا منهما، نُصحًا للأُمَّة وخروجًا مِنْ مَعَرَّةِ الكِتمانِ وإثمِه؛ ﻓ «اللهُ تعالى قد أمَرَ بالصِّدق والبيان، ونهى عن الكذبِ والكِتمانِ فيما يُحتاجُ إلى معرفتِه وإظهارِه»(٢)؛ وقد عصَمَ اللهُ الأمَّةَ مِنْ أَنْ تتَّفِقَ على الإقرارِ بالخطإ ـ ولو كان اجتهادًا ـ أو السُّكوتِ عليه دون وجودِ مُنكِرٍ أو مُخالِفٍ، لأنَّه ضلالةٌ مِنَ الشَّيطانِ، وإِنْ كان صاحبُه مجتهدًا مُتأوِّلًا معذورًا مأجورًا غيرَ مأزورٍ جليلَ القَدْرِ محفوظَ المَنزلةِ؛ والجمعُ أَوْلَى مِنَ التَّرجيحِ، وإعمالُ النُّصوصِ والآثارِ جميعًا أَوْلى مِنْ إهمالِ بعضِها أو جميعِها؛ فالإنكارُ يكون عَلنًا فيما يُتوقَّعُ فيه حصولُ المَصلحةِ والخيرِ وزوالُ الشَّرِّ، ويكون سِرًّا فيما إذا كان الإعلانُ بالإنكار يزداد به الشَّرُّ ولا يحصل به الخيرُ، ولا يُبذَل له النُّصحُ ـ لا سِرًّا ولا عَلنًا ـ حيث لا تُرجى فيه مصلحةٌ وتترتَّب عليه مفسدةٌ أكبرُ.

هذا، وبالإنكارِ العلنيِّ على وُلَاةِ الأمر بضوابطه قال الألبانيُّ وابنُ عثيمين ومُقبِلٌ الوادعيُّ ـ رحمهم الله ـ وغيرُهم كثيرٌ سواءٌ مِنَ المُعاصرين والسَّالفين، وبه قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ، وحكى هَذا الإنكارَ عن طائفةٍ مِنَ السَّلف الصَّالح مِنَ الصَّحابةِ فمَنْ بعدهم، وهم أَسعَدُ بالصَّوابِ وأَقوَمُ بالأحاديثِ الَّتي رَوَوْها في ذلك ممَّنْ جاء بعدَهم، فكيفَ يكونُ هؤلاءِ ـ على زَعمِ المُنتقِدِ ـ مُنتهِجِين مذهبَ الخوارجِ؟! إنَّ هَذا لشَيءٌ عُجابٌ؟! فلْيَعقِلْ مُنتقِدُ الفتوى لسانَه، ولْيَكبَحْ جِماحَه عن الوقيعةِ في أصحابِها بما يَلْزَمُه مِثلُه ـ وإِنْ لم يَقصِدهم ـ في حقِّ سَلَفِه فيها ـ تأصيلًا وتطبيقًا ـ مِنَ التَّطاولِ عليهم باللَّمزِ والطَّعن، أو التَّجاسُرِ عليهم بالشَّتمِ والوصفِ بالإجرام، وانتقادِهم بنقدٍ مُعرَّى عن لُغةِ العلمِ والأدبِ، فهُم عُلَماءُ السُّنَّةِ وأعلامُها وأئمَّتُها ومشاهيرُها الَّذين لهم لسانُ صِدقٍ في قَولِ الحَقِّ والصَّدعِ به؛ وقدمٌ راسخةٌ في خِدمةِ السُّنَّةِ النَّبويَّةِ وعلومِ الدِّينِ والشَّريعةِ والاستِكثارِ منها، واتَّفقَتِ الأمَّةُ على جلالتِهم وإمامتِهم، لا سيَّما مع تَكاثُرِ الآثارِ في ذلك عن مجموعِهم مِنْ غيرِ مُواطأةٍ ولا نكيرٍ له رأسًا بما فيهم راوي حديثِ الإسرارِ عياضُ بنُ غَنْمٍ رضي الله عنه، مع تقريرهم وإرشادِهم إلى الإسرار بالنُّصح أصالةً، فلا معارضةَ بين ما قرَّروه وبين ما فعلوه إذا وُجِّه هذا التَّوجيهَ.

وأمَّا السُّؤالُ الثَّاني، فإنَّه يسوغُ في نازلةِ «كُورونا» أو غيرِها أَنْ يَتَّبِعَ طالبُ العلمِ ـ فضلًا عن العامِّيِّ ـ الأعلمَ بدليله ـ على أَظهَرِ الأقوالِ ـ وذلك إِنْ تَعذَّر عليه معرفةُ الرَّاجحِ وكانت المَسألةُ اجتهاديَّةً.

أمَّا إذا تَمكَّن مِنْ معرفةِ الدَّليلِ الأقوَى والقولِ الأرجحِ ـ سواءٌ مِنَ الأعلم أو مَنْ دونه ـ أو كانت المَسألةُ ممَّا لا يسوغُ فيها الخلافُ؛ لظهورِ الدَّليلِ الرَّاجح فيها؛ وضعفِ دليلِ المُخالِف: فهُنا وجَبَ عليه ـ والحالُ هذه ـ أَنْ يَتَّبِعَ الدَّليلَ الرَّاجحَ ويَسلُكَ طريقَهُ ويَعملَ بمُوجَبه ومُقتضاه، ولا يلتفتَ إلى غيرِ الدَّليلِ الرَّاجحِ.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢٨ رجب ١٤٤٣هـ
الموافق ﻟ: ١ مارس ٢٠٢٢م



(١) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الجهاد والسِّيَر» (٢٩٨٩) بابُ مَنْ أخَذَ بالرِّكاب ونحوِه، ومسلمٌ في «الزكاة» (١٠٠٩) بابُ بيانِ أنَّ اسْمَ الصَّدقةِ يقع على كُلِّ نوعٍ مِنَ المَعروف، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

(٢) «منهاج السُّنَّة» لابن تيميَّة (١/ ١٦).