جواب اعتراضٍ على الثَّناءِ على ابنِ باديس ـ رحمه الله ـ والاعتذار له عن أخطائِه | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 11 شوال 1445 هـ الموافق لـ 20 أبريل 2024 م

الفتوى رقم: ١٢٩٠

الصنف: فتاوى منهجية

الجواب عن الاعتراض على
الثَّناءِ على ابنِ باديس ـ رحمه الله ـ
والاعتذار له عن أخطائِه

نصُّ الشبهة:

يُلاحَظ على الدّكتور اهتمامُه بآثارِ ابنِ باديس  شرحًا وتعليقًا واستدراكًا مع الاعتذارِ والْتِماسِ المَخارجِ الشَّرعيَّة لكلامِهِ الذي ظاهرُهُ مُجانبَةُ الصَّواب، والْتِماسِ العُذر له فيما أَخطأَ فيه الصوابَ يقينًا بحكمِ اجتهاده فيه واستفراغه وُسْعَه؛ ولكِنْ وقَعَ مِنِ ابنِ باديس ما أرى أنه لا مَجالَ للدِّفاع عنه فيه، وأنه يستوجب موقفًا تحذيريًّا وتبرُّؤًا مِنْ منهجِهِ، وذلك لإشادته بالأُخُوَّة الإنسانيَّة كما جاء عنه في [«الآثار» (٣/ ٤٤٥)]، وبالدِّيمقراطيَّةِ كما ورَدَ عنه في [«الآثار» (٣/ ١٢٠)]، وغيرهما.

هذا، وقد حَكَمَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ ـ رحمه الله ـ بِالبِدعةِ والضَّلالِ عَلَى مَنْ يَعتذِرُ للباطنيَّةِ في أقوالهم، ويجتهدُ ليَجِدَ لهم مَساغًا، وإِنْ كان المُعتذِرُ لا يُقِرُّ بذلك ولا يدعو إليه، إِذِ الاعتذارُ لهم تحسينٌ لاعتقادهم ونُصرةٌ لهم.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فالشيخُ عبدُ الحميد بنُ باديس ـ رحمه الله ـ شخصيَّةٌ جزائريَّةٌ دِينيَّةٌ إصلاحيَّةٌ فَذَّةٌ في خصائصِها ووظيفتِها المُترامِيَةِ الجوانبِ والأبعاد، تَفرَّدَتْ بدورها الدِّينِيِّ والتَّاريخِيِّ والحَضارِيِّ والإِصلاحِيِّ، بل هو أحَدُ كبارِ الشَّخصيَّاتِ في الجزائر، فكيف لا يُعتنى بآثاره العِلميَّةِ وتوجيهاتِهِ التَّربويَّةِ السَّديدَةِ الَّتِي تَرَكها وهو رئيسُ جمعيَّةِ العُلماءِ المُسلمينَ بالجزائر، ورائدُ النَّهضةِ الإصلاحيَّةِ، والقُدوةُ الرُّوحيَّةُ لحربِ التَّحريرِ الجزائريَّة، وكيف لا أُثنِي عليه وقد أثنى عليه إخوانُه المُصلِحون في جمعيَّةِ العلماءِ السَّابقةِ ممَّنْ عَرَفوهُ عن كَثَبٍ وعاصَرُوهُ وواكبوا معه مُجرَياتِ الأحداثِ والظُّروفَ والمُلابساتِ عَبْرَ تَطوُّرِهَا المَرحلِيِّ، وقد وصفوه بالإمامةِ والسَّلفيَّةِ والإصلاحِ وبالقيادةِ والتَّوجيهِ وغيرِها:

ـ فهذا الشَّيخُ محمَّدُ البشيرُ الإبراهيميُّ ـ رحمه الله ـ يقولُ عن ابنِ باديسَ ـ وهو يَصِفُه ـ: «إمامُ الحركةِ السَّلفيَّةِ؛ ومُنشِئُ مجلَّةِ «الشِّهاب» مرآةِ الإصلاحِ وسيفِ المُصلِحينَ، ومُربِّي جِيلَيْنِ كاملَيْنِ على الهِدايةِ القرآنيَّةِ والهَدْي المُحمَّديِّ وعلى التَّفكيرِ الصَّحيحِ، ومُحيِي دوارسِ العِلمِ بدروسه الحيَّةِ، ومُفسِّرُ كلامِ اللهِ على الطَّريقةِ السَّلفيَّةِ في مجالسَ انتظمَتْ رُبْعَ قرنٍ»(١).

ـ وجاء في تقديمِه لكتابِ «العقائد الإسلاميَّة» لابنِ باديس قولُه: «كان الإمامُ المبرورُ يصرِّف تلامذتَهُ مِنْ جميعِ الطَّبقاتِ على تلك الطَّريقة السَّلفيَّةِ؛ ومعلومٌ أنَّ الإصلاحَ الإسلاميَّ الذي قامت به جمعيَّةُ العلماءِ بعد ذلك لا تقومُ أصولُه إلَّا على ذلك، وأنَّ هذا الإمامَ رفَعَ قواعدَهُ وثَبَّتَ أصولَهُ وهَيَّأَ له جيشًا مِنْ تلامذَتِهِ وحاضِرِي دروسِهِ»(٢).

ـ وقال أبو يعلى الزَّواويُّ ـ رحمه الله ـ: «وعرَفْتُ بظَهرِ الغيبِ الأستاذَ الشَّيخَ عبدَ الحميدِ بنَ بَاديسَ المُشرِفَ على «الشِّهاب» أنَّه قُطبُ دائرتِنَا السَّلفيَّة»(٣)، وغيرُها كثيرٌ.

وقد قامت دعوةُ ابنِ باديسَ ـ رحمه الله ـ الإصلاحيَّةُ على الرُّجوع إلى الكتابِ والسُّنَّةِ وعملِ السَّلفِ الصَّالحِ، فقَدْ جاء في نصيحتِهِ النَّافعةِ ووصيَّتِهِ الجامعةِ قولُه: «اعْلَمُوا ـ جعَلَكم اللهُ مِنْ وُعَاةِ العِلمِ، ورَزَقكم حلاوةَ الإدراكِ والفهمِ، وجَمَّلكم بعِزَّةِ الاتباعِ، وجَنَّبكم ذِلَّةَ الابتداعِ ـ: أنَّ الواجبَ على كُلِّ مسلمٍ في كُلِّ مكانٍ وزمانٍ: أَنْ يعتقدَ عقدًا يَتشرَّبُهُ قلبُهُ، وتسكنُ له نفسُهُ، وينشرحُ له صدرُهُ، ويَلهَجُ به لسانُهُ، وتنبني عليه أعمالُهُ: أنَّ دينَ اللهِ تعالى ـ مِنْ عقائدِ الإيمانِ، وقواعدِ الإسلامِ، وطرائقِ الإحسانِ ـ إنَّما هو في القرآن والسُّنَّةِ الثَّابتةِ الصَّحيحةِ، وعملِ السَّلف الصَّالحِ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعِ التَّابعينَ، وأنَّ كُلَّ ما خرَجَ عن هذه الأصولِ، ولم يَحْظَ لديها بالقَبولِ ـ قولًا كان أو عملًا أو عقدًا أو احتمالًا ـ فإنَّه باطلٌ مِنْ أصلِهِ، مردودٌ على صاحبِهِ ـ كائنًا مَنْ كان، في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ ـ فاحْفَظُوها واعْمَلوا بها، تهتدُوا وتَرشُدُوا إِنْ شاء اللهُ تعالى، فقَدْ تَضافرَتْ عليها الأدلَّةُ مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ وأقوالِ أساطينِ المِلَّةِ ـ مِنْ عُلماءِ الأمصار وأئمَّةِ الأقطار وشيوخِ الزُّهدِ الأخيار ـ وهي ـ لَعَمْرُ الحقِّ ـ لا يقبلها إلَّا أهلُ الدِّينِ والإيمانِ، ولا يردُّها إلَّا أهلُ الزَّيغ والبُهتانِ»(٤).

وفي أبوابِ العقيدةِ وفصولِهَا ـ مِنْ خلالِ رسالتِهِ: «العقائد الإسلاميَّة مِنَ الآياتِ القرآنيَّةِ والأحاديثِ النَّبويَّةِ» الَّتِي تَناوَلها الشيخُ عبدُ الحميد بنُ باديسَ ـ رحمه الله ـ بالبيانِ والإيجازِ ـ: اتَّضحَ منهجُهُ التَّوقيفيُّ في تقريرِ مسائلِ الاعتقادِ بالتَّسليمِ المُطلَقِ للنُّصوصِ الشَّرعيَّةِ، فلم يَرُدَّ منها شيئًا ولم يُعارِضْهَا بشيءٍ، ولا تَجاوَزَها إلى إعمالِ رأيٍ كلاميٍّ أو قياسٍ فلسفيٍّ أو ذَوْقٍ صوفيٍّ، ولا ادَّعى أَنَّ هذه النُّصوصَ فيها ظاهرٌ وباطنٌ، بل سَلَكَ فيها سَبيلَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ الَّذين الْتَزموا قولَه تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ١[الحُجُرات]، فمَنْ كان هذا المَسْلَكُ وصْفَهُ وعقيدتَهُ وأُسُسَ منهجِهِ الَّتِي قامت عليها دعوتُهُ، فكيف يُلحَقُ بفِرقةِ الباطنيَّةِ المُتستِّرَةِ بالتَّشيُّعِ وحُبِّ آلِ البيت والرَّفض للتَّقرُّبِ مِنَ النَّاسِ مع إبطانِ الكفرِ المَحضِ، وهذا مِنْ أغرب الاستدلالاتِ وأَبعَدِ الأقيسةِ.

هذا، والمعلومُ أنَّ العلماءَ ـ مهما تفاضلُوا وارتقَوْا في العلم ـ فهُمْ عُرضةٌ لكُلِّ ما يدخل في الطَّبيعةِ البشريَّةِ مِنْ سهوٍ وغفلةٍ وتقصيرٍ ونحوِ ذلك مِنْ صُوَرِ النَّقصِ، الأمرُ الذي يُفضِي ـ بلا شكٍّ ـ إلى الوقوع في الهفوات والهَنَات والأخطاء والزَّلَّات، لذلك لا ينبغي اتِّباعُ نوادرِ العلماء وزَلَّاتِهم وهفواتِهم وأخطائِهم في الشَّرع بعد ثبوتِها عنهم مهما قُدِّرَتْ نِسبتُها؛ كما لا يجوز الإقرارُ بها لكونها خطأً وزلَّةً وهفوةً إِنْ كانوا فيها متأوِّلِين مجتهدين اجتهادًا لم يخالطه هوًى، أو خطيئةً وإثمًا ومعصيةً؛ فلا يجوز لمَنْ تَبيَّن له خطؤهم فيها التذرُّعُ بكلامهم وصنيعِهم للعمل بها بحجَّةِ الانقيادِ والطَّاعةِ والاتِّباع للعلماء، إذ ليس للعالِمِ مِنَ الطَّاعةِ والاتِّباع إلَّا لأنَّه مُبلِّغٌ عن اللهِ دِينَهُ وشرعَهُ؛ وبالمُقابلِ لا ينبغي للعالِمِ أَنْ تُهدَرَ مَحاسنُهُ وفضائلُهُ بالانتقاصِ مِنْ وزنِهِ العِلمِيِّ وقِيمتِهِ الأدبيَّةِ بسببِ هفوتِهِ في مقالٍ كتَبَهُ، أو سَقْطَتِهِ في موقفٍ اتَّخذَهُ، أو زَلَّتِهِ في حكمٍ شرعِيٍّ أفتى به؛ قال سعيدُ بنُ المُسيِّبِ ـ رحمه الله ـ: «ليس مِنْ عالِمٍ ولا شريفٍ ولا ذِي فضلٍ إلَّا وفيه عيبٌ، ولكِنْ مَنْ كان فضلُهُ أكثرَ مِنْ نَقصِهِ ذهَبَ نقصُهُ لفضلِهِ، كما أنَّ مَنْ غَلَبَ عليه نقصانُهُ ذهَبَ فضلُهُ»(٥)؛ وقال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «ومَنْ له عِلمٌ بالشَّرعِ والواقعِ يَعلمُ قطعًا أنَّ الرَّجلَ الجليلَ الذي له في الإسلامِ قَدَمٌ صالِحٌ وآثارٌ حسنةٌ وهو مِنَ الإسلامِ وأهلِه بمكانٍ، قد تكون منه الهَفْوَةُ والزَّلَّةُ، هو فيها معذورٌ، بل مأجورٌ لاجتهادِه، فلا يجوز أَنْ يُتَّبَعَ فيها، ولا يجوز أَنْ تُهْدَرَ مكانتُه وإمامتُه ومَنْزلتُه في قلوبِ المُسلمين»(٦).

وأمَّا المَوقِفُ السِّياسيُّ للشيخِ ابنِ باديسَ ـ رحمه الله ـ، وأسلوبُ التَّعامُلِ به مع الإدارة الفرنسيَّةِ المُحتلَّةِ فيتجلَّى ـ تبعًا لطبيعةِ كُلِّ المَرحلةِ وظروفها ومُعطَيَاتها ـ في تبايُنِ مرحلتين أساسيَّتينِ وهما:

الأولى: وهي مرحلةُ إظهارِ المُوافقَةِ للإدارة الفِرنسيَّةِ الحاكمة ـ آنَذاك ـ في بدايةِ نشاطِهِ الدَّعْوِّي وجهادِهِ الإصلاحيِّ الدِّينيِّ باستعمالِ مبدإِ المُداراةِ السياسيَّةِ وإظهارِ اللِّين في الكلام واللُّطفِ في الفِعال تقيَّةً، قَصْدَ تَفادِي الاصطدامِ مع الإدارة الفِرنسيَّةِ، وخشيةَ إجهاضِ العملِ الدَّعْوِيِّ والنَّشاطِ الدِّينِيِّ الذي كانت تتطلَّبُهُ تلكَ المَرحلةُ، حيث كانت إدارةُ الاحتلالِ الفِرنسيِّ تُتابِعُ نشاطَهُ وتُراقِبُ حركتَهُ عن كَثَبٍ بأساليبَ مُتنوِّعةٍ لإيجادِ أيِّ ثغرةٍ أو مسوِّغٍ لِمَنعِه مِنْ مُواصلةِ عملِهِ ونشاطه، فكان ـ بلا شكٍّ ـ مِنَ الصَّعبِ مُمارسَةُ أيِّ عملٍ دِينِيٍّ أو إصلاحيٍّ بصورةٍ عَلَنيَّةٍ، وفي إطارٍ مكشوفٍ، مِنْ غيرِ مضايقاتٍ مِنَ المُحتَلِّ الفِرنسيِّ بأعوانِهِ الذي كان في كُلِّ مَرَّةٍ يتعسَّفُ في حَقِّ الشَّيخ فيُوقِفُ جرائدَهُ ويُلجِمُ لسانَهُ؛ لذلك كان ابنُ باديسَ وإخوانُهُ رحمهم الله يرَوْن أنَّ هذه المَرحلةَ تقتضي إظهارَ الأملِ في فِرنسا بمُداراتها سياسيًّا، والتَّظاهُرِ باحترامِ نُظُمها وشِعاراتِها، وتركِ مهاجمتِها ـ تقيَّةً ـ لئلَّا تُضيِّقَ الخِناقَ على مسيرتِهِ الجهاديَّةِ ودعوتِهِ الإصلاحيَّةِ، عملًا بمبدإِ مُداراةِ العدُوِّ واستعمالِ المَعاريضِ والتَّوريَةِ ونحوِها، ومبدإ التقيَّة في إظهارِ الموالاة لاتِّقاءِ شرِّ العدوِّ مع إضمار العداوة له؛ عملًا بقوله تعالى: ﴿لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةٗ[آل عمران: ٢٨]، ففي الآيةِ دليلٌ على جواز الموالاة لهم عند الخوف منهم اضطرارًا، ولكنَّها تكون ظاهرًا لا باطنًا(٧)، وفي حالة الاستضعاف مِنْ غيرِ مساومةٍ في مُقوِّماتِ الأُمَّةِ الجزائريَّةِ ولا مُداهنةٍ على المَواقفِ المَبدئيَّةِ للجمعيَّةِ ولا المَصيريَّةِ للدَّعْوَةِ.

وهذا التَّظاهُرُ بالاحترامِ والعلاقَةِ الطَيِّبةِ ما هو ـ في حقيقة الأمر ـ إلَّا مواقِفُ تخطيطيَّةٌ مَبنيَّةٌ على تحدِّياتِ المَرحلةِ الاستدماريَّةِ ومُعطياتِ الواقع السِّياسيِّ والمَعاشِيِّ الرَّامِي إلى إبقاءِ الأُمَّةِ الجزائريَّةِ مُتميِّزَةً بمُقوِّماتِها الشَّخصيَّةِ، وقِيمتِها الذَّاتيَّةِ وتَميُّزِها الحضارِيِّ.

أمَّا المرحلةُ الثَّانية: فهي إعلانُ المُخالفة، وذلك بعدم الاستمرارِ على السِّياسة القديمةِ وهي سياسة المُطالبَةِ والانتظارِ بعدَ مُماطلةِ الإدارةِ الفِرنسيَّةِ في تحقيقِ مَطالِبِ المُؤتمَرِ الإسلاميِّ سَنَةَ: (١٩٣٦م)، واليأسِ بسببِ مُراوغاتِ الإدارةِ الفِرنسيَّةِ الَّتِي أَدرك الشَّيخُ قَصْدَها ونِيَّتَها السَّيِّئةَ وسعيَها لإضعافِ النَّهضةِ الإسلاميَّةِ الآخذةِ في النُّمُوِّ والانتشارِ؛ ولهذا قال: «وأمَّا نحن ـ الجزائريِّين ـ فإنَّنا نعلمُ مِنْ أنفُسِنَا أنَّنا أَدرَكْنا هذا الإخلاف العُرقوبيَّ، وأَدرَكْنا مَغْزاه، وأَخَذَ اليأسُ بِتَلابيبِ كثيرٍ مِنَّا وهو يكاد يَعُمُّ، ولا نتردَّدُ في أنَّه قد آنَ أوانُهُ ودَقَّتْ ساعَتُهُ»(٨)؛ كما أزاح ـ رحمه الله ـ شعارَ «الحقُّ والعدلُ والمُؤاخاةُ في إعطاءِ جميعِ الحقوقِ للَّذِينَ قاموا بجميع الواجباتِ»، وهو أحَدُ الشِّعاراتِ التي كان يُداري بها ويتَّقي بها شرَّ الحكومة الفرنسيَّة الممثِّلة للشعب الفرنسيِّ الديمقراطيِّ، فاسْتَبْدله ـ في هذه المرحلة ـ بشعارٍ آخَرَ وهو: «لِنَعْتَمِدْ على أنفُسِنا، وَلْنَتَّكِلْ على اللهِ»؛ وقد قال ـ رحمه الله ـ عن الجمعيَّة: «ونحن نجدِّدُ لكم عهدَ اللهِ على السَّيرِ بالجمعيَّةِ أو مع الجمعيَّةِ على خِطَّتِها الدِّينيَّةِ العِلميَّةِ لِنشرِ العِلمِ والفَضيلَةِ، ومحاربةِ الجهلِ والرَّذيلةِ؛ القرآنُ إمامُنا، والسُّنَّةُ سبيلُنا، والسَّلفُ الصَّالح قُدوتُنَا، وخِدمةُ الإسلامِ والمُسلمينَ وإيصالُ الخيرِ لجميعِ سكَّانِ الجزائر غايتُنَا، فَلْنَسِرْ مُوحِّدِينَ مُتَّحدِينَ على هذا الصِّراطِ المُستقِيمِ لِخَيرِ الجميعِ، واللهُ مع العاملينَ المُخلِصينَ، والحمدُ لله ربِّ العالمين»(٩).

هذا، ولعلَّ مبدأَ مداراةِ العدوِّ، واستعمال التَّقِيَّةِ في حالةِ الخوفِ والاستضعافِ والعجزِ هو الفاصلُ المُميِّزُ بين المرحلتينِ اللَّتَيْن صَدَرَتْ فيهما مقالاتُ الشَّيخِ ابنِ باديسَ ـ رحمه الله ـ وخُطَبُهُ وكتاباتُهُ السِّياسِيَّةُ، ولو أُغفِلَ هذا المَبدأ وغُيِّبَ عند الطَّرْحِ لَمَا فُسِّرَتْ مَقالاتُ ابنِ باديسَ ـ رحمه الله ـ وتصريحاتُهُ ومواقِفُهُ السِّياسيَّةُ تلك بالتَّفسيرِ الصَّحيحِ، ولَانْتَفَتِ القِراءةُ والفهمُ السَّليمُ لها.

والمُعترِضُ ـ في هذا الباب ـ يتسرَّع مِنْ غيرِ أَنَاةٍ في إهدارِ مكانةِ العالِمِ المجتهدِ وبخسِه حقَّه بالاتِّهام والطعن والتحذير والإقصاء، وإرهابِ غيرِه مِنَ المُثْنِين عليه أو العاذرين له والمُغتفِرين لِزَلَّتِه، وذلك بوَصمِه بوصمِ البدعةِ والضلال الذي وصَفَ به ابنُ تيميَّة ـ رحمه الله ـ مَنْ يعتذر لزنادقة المَلاحِدة الباطنيَّة الذين هم أشدُّ حكمًا مِنَ الروافض، مِنْ غيرِ مُراعاةٍ للموقِفِ المُتَّخَذِ مِنْ علماءِ الجمعيَّةِ، وَلَا مُراعاةٍ للأحداثِ والظُّروفِ والمُضايَقَاتِ والمُلابَسَاتِ في سياقِهَا الزَّمَنِيِّ ولا في تَطوُّرِها المَرحلِيِّ؛ فشَتَّانَ ما بين ابنِ باديس ـ حتَّى ولو اعتبَرْنا ذلك منه زلَّةً غيرَ معذورٍ بها ولم يرجع عنها ـ وبين الباطنيَّة مع إلحادهم وزندقَتِهم؛ قال السُّبكيُّ ـ رحمه الله ـ: «فكثيرًا ما رأيتُ مَنْ يسمع لفظةً فيفهمها على غيرِ وجهِهَا، والخبرةُ بمدلولاتِ الألفاظِ ـ ولا سِيَّما الألفاظ العُرفيَّة التي تختلف باختلافِ عُرف النَّاس، وتكون في بعض الأزمانِ مدحًا وفي بعضها ذَمًّا ـ أمرٌ شديدٌ لا يُدرِكُه إلَّا قعيدٌ بالعلم»(١٠).

فالحاصل: أنَّ علماءَ الإسلامِ مِنْ أَئمَّةِ المُسلمينَ، وهُمْ خَيرُ الأُمَّةِ؛ فالواجبُ تُجاهَهم الْتِماسُ العُذرِ لهم، وإحسانُ الظَّنِّ بهم؛ لأنَّهم حَمَلةُ الدِّينِ العامِلونَ به؛ ومِنْ حقِّهم ـ إِنْ وقعوا في خطإٍ أو غلطٍ أو هَفوةٍ أو زلَّة ـ أَنْ يُنْصَحوا فيها، وتُبيَّنَ أخطاؤُهم لهم على وجهِ الإنصافِ والعدلِ، وبالأسلوب الأدبيِّ اللَّائِقِ بمَقامِهم، المُؤدِّي إلى الغَرضِ المَطلوبِ، بعيدًا عن دوافعِ الهوى والتَّشهِّي والحيفِ؛ تحاشيًا لكُلِّ ما مِنْ شأنِهِ أَنْ يَحُطَّ مِنْ قَدْرهم ومَنزلتِهم أو أَنْ يَمَسَّ كرامتَهم وعِرْضَهم(١١)؛ قال الشاطبيُّ ـ رحمه الله ـ: «إنَّ زلَّةَ العالِمِ لا يصحُّ اعتمادُها ـ مِنْ جهةٍ ـ ولا الأخذُ بها تقليدًا له، وذلك لأنها موضوعةٌ على المخالفة للشرع، ولذلك عُدَّتْ زلَّةً، وإلَّا فلو كانت مُعتَدًّا بها لم يُجعَلْ لها هذه الرتبةُ، ولا نُسِب إلى صاحبِها الزللُ فيها؛ كما أنه لا ينبغي أَنْ يُنسَب صاحبُها إلى التقصير، ولا أَنْ يُشنَّع عليه بها، ولا يُنتقَص مِنْ أجلها، أو يُعتقَد فيه الإقدامُ على المُخالَفة بحتًا؛ فإنَّ هذا كُلَّه خلافُ ما تقتضي رتبتُه في الدِّين»(١٢).

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٠٦ رجب ١٤٤٣ﻫ
المـوافـق ﻟ: ٠٧ فبراير ٢٠٢٢م

 



(١) «آثار الإمام محمَّد البشير الإبراهيمي» (٣/ ٥٥٢).

(٢) المصدر السابق (٥/ ٣١٣).

(٣) «الشِّهاب» السَّنَة (٢) العدد: (٨١) ص (٧٦٨).

(٤) «آثار ابنِ باديس» (٣/ ١٦٣).

(٥) أخرجه ابنُ عبد البرِّ في «جامع بيانِ العلم وفضلِه» (٢/ ٨٢٠).

(٦) «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٣/ ٢٨٢).

(٧) «فتح القدير» للشوكاني (١/ ٣٣١) [بتصرُّف].

(٨) «آثار ابنِ باديس» (٣/ ٣٦٤).

(٩) المصدر السابق (٣/ ٦١).

(١٠) «قاعدة في الجرح والتعديل» للتاج السبكي (٥٣).

(١٢) «الموافقات» للشاطبي (٤/ ١٧٠ ـ ١٧١).