في حكمِ زراعةِ صِمَامِ قلبِ خنزيرٍ في جسم المسلم | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 18 شوال 1445 هـ الموافق لـ 27 أبريل 2024 م

الفتوى رقم: ١٣٥٤

الصنف: فتاوى طبِّيَّة

في حكمِ زراعةِ صِمَامِ قلبِ خنزيرٍ في جسم المسلم

السؤال:

بعضُ العمليَّات الجراحيَّة على القلب يُستبدَلُ فيها صِمَامُ قلبٍ آدميٍّ بصِمَامِ خنزيرٍ لِمُلاءمَتِه له، وحُسْنِ تأدِيَتِه لوظيفته كصِمَامٍ طبيعيٍّ في القلب للتشابه التشريحيِّ بين القلب البشريِّ وقلبِ الخنزير؛ ولا يخفى عليكم ما لِمَرضى القلب مِنْ حاجةٍ شديدةٍ ومُلِحَّةٍ للعلاج وإنقاذِ أنفُسِهم مِنْ خطر السكتة القلبيَّة؛ علمًا أنَّ الأطِبَّاءَ قد بيَّنوا في تقريراتهم الطِّبِّيَّةِ أنَّ أعضاءَ الخنزير ـ أَكرمَكم الله على تَفاوُتِها في درجةِ قابليَّةِ الجسم البشريِّ لها، وإِنْ لم تكن بنَجَاعةِ زراعةِ الأعضاء البشريَّة ـ مِنْ أنجعِ الوسائل العلاجيَّة غيرِ البشريَّة وأكثرِها ملاءَمةً ومطابقةً لأعضاء الآدميِّ وأقلِّها مَخاطِرَ، بحيث يلتئم مع جسم الآدميِّ ويَقِلُّ احتمالُ رفضِه مقارنةً بغيرها مِنَ الأعضاء الحيوانيَّة أو الاصطناعيَّةِ معدنيَّةً كانت أم غيرَها؛ فيبرأ بسرعةٍ، ولا يؤدِّي الزرعُ إلى نتائجَ عكسيَّةٍ؛ فهل يجوز نقلُ أجزاءٍ مِنْ هذا الحيوان المحرَّمِ أكلُه باتِّفاقٍ والمحكومِ بنجاسته على خلافٍ، وزراعتُه في جسم الإنسان قَصْدَ التداوي والعلاج؟ وهل إذا دخَلَ بدنَ المسلمِ عضوُ الحيوانِ النَّجِس نحكُم بنجاسةِ البدن أم بطهارته؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فإنَّه ـ وبغَضِّ النظر عن حُكمِ زراعة الأعضاء ونقلِها بأنواعها المختلفة، سواءٌ كان العضوُ منقولًا إلى صاحبه مِنْ موضعٍ إلى موضعٍ آخَرَ مِنَ البدن نفسِه، أو أنَّ أحَدَ أعضائه كان انقطع أو قُطِع وأُبِينَ مثل اليد أو أصابِعها بسببٍ شرعيٍّ أو بعدوانٍ فيراد إعادتُها بزراعتها في البدن، أو كان العضوُ منقولًا مِنْ إنسانٍ إلى إنسانٍ آخَرَ مسلمًا كان أو كافرًا، أو كان العضوُ منقولًا مِنْ حيوانٍ طاهرٍ مأكولًا مذكًّى أو غيرَ مذكًّى أو غيرَ مأكولٍ إلى جسم الإنسان ـ فهذه الأنواعُ لا أتعرَّض لبيانِ حُكمها، وإنَّما أتناولُ المسألةَ مَحَلَّ السؤالِ، وهي حكمُ زراعةِ الأعضاءِ أو نقلِها مِنْ حيوانٍ محرَّمٍ نجسٍ إلى جسم الإنسان، مع الجزئيَّة الثانية المتمثِّلةِ في مسألة دخولِ عضوِ الحيوانِ النَّجِسِ بدنَ المسلم: هل ينقلبُ البدنُ نجسًا أم يُحكَم بطهارته؟

وهذا المَقام يحتاج بيانُه إلى طرحِ جملةٍ مِنَ التساؤلات منها:

ـ هل الخنزير ـ مع كونه محرَّمَ الأكل ـ نجسُ الذِّات أم هو طاهرٌ؟

ـ وهل الحكم بتحريمِ أكلِ الخنزير ولو مع الحكم بطهارةِ عَيْنه يمنع مِنَ الانتفاع الطِّبِّيِّ بجميع أعضائه سواءٌ كان للاستعمال الخارجيِّ أو الداخليِّ؟

ـ وإذا كان يجوز أكلُ المَيْتة أو المحرَّمِ بقَدْره عند الاضطرار وذلك بالنصوص الشرعيَّة العامَّة المُثبِتة لحُكمِ الضرورة؛ فهل تدخل هذه النصوصُ في كُلِّ أبواب الفقه بما في ذلك باب الطِّبِّ أم هي خاصَّةٌ بباب الأطعمةِ للمَخمَصة ونحوِها وما دلَّتْ عليه النصوصُ بخصوصه وما شابهها؟

ـ وإذا لم تَشمَلِ النصوصُ المُثبِتةُ للضرورة سائرَ الأبوابِ فهل تَشمَلُ مَسألةَ التداوي في باب الطِّب؟ وهل يُلحَق بباب الأطعمة إلحاقًا قياسيًّا، فيكون ـ عندَئذٍ ـ التداوي بالخنزير والمَيْتةِ والخمرِ ومُشتقَّاتها بوجهٍ عامٍّ جائزًا في حالِ الاضطرار؟

وبيانًا لذلك أقول ـ وبالله التوفيق ـ:

فعلى مذهبِ جمهور العلماء فإنَّ الخنزير نجسُ الذات، وأقوى عُمدَتِهم في ذلك: قولُه تعالى: ﴿أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ[الأنعام: ١٤٥]، خلافًا لمذهبِ مالكٍ وداودَ أنه طاهرُ العَيْن، على أنَّ مالكًا إنَّما يراه طاهرًا في حياته فقط، وأنَّ المَيْتةَ غيرَ المذكَّاة فقط هي النَّجِسةُ، سواءٌ كانت مَيْتةً لحيوانٍ يجوزُ أكلُه أم يَحرُم أكلُه، بينما يرى داودُ الظاهريُّ طهارتَه مُطلَقًا في حياته ومماته، وهو ما رجَّحه الشوكانيُّ.

ويرجع الخلافُ بين المالكيَّة والجمهور في نجاسةِ ذاتِ الخنزير مِنْ طهارته إلى الاختلاف في علَّةِ الطهارة والنَّجاسة في الحيوان: هل عِلَّةُ الطهارةِ هي الحياةُ، فلا نجاسةَ في حيوانٍ حيٍّ؛ أم أنَّ عِلَّةَ الطهارةِ هي إباحةُ الأكل، فكُلُّ حيوانٍ محرَّمِ الأكلِ فهو نجسٌ إلَّا ما شقَّ التحرُّزُ منه كالهرِّ أو ما كان ممَّا لا نفسَ له سائلة كما تقدَّم تفصيلُه في فتوَى سابقةٍ(١).

هذا، وقد تقدَّم أنَّ الشوكانيَّ ـ رحمه الله ـ رجَّح طهارةَ الخنزيرِ مع تحريمِ أكله بقوله: «المرادُ بالرِّجسِ هنا: الحرامُ كما يُفيدُه سِياقُ الآيةِ والمقصودُ منها؛ فإنَّها وردَتْ فيما يَحرُم أكلُه لا فيما هو نجسٌ؛ فإنَّ الله سبحانه قال: ﴿قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ[الأنعام: ١٤٥] أي: حرامٌ؛ ولا تَلازُمَ بين التَّحريم والنَّجاسةِ؛ فقد يكون الشَّيءُ حرامًا وهو طاهرٌ كما في قوله: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ[النساء: ٢٣]»(٢)؛ ولكِنْ يبقى التساؤلُ قائمًا فيما إذا حُكِم بطهارة الخنزير فهل يمنع تحريمُ أكلِه ـ شرعًا ـ مِنَ الانتفاع ببقيَّةِ جسده بغيرِ أكلِ لحمه كالخَرْز بشَعرِه وصُنعِ الأحذيةِ والحقائب والسُّتراتِ بجِلده(٣)، أو أَنْ يُجعَل مِنْ نوعِ نقل الأعضاء مِنْ غيرِه مِنَ الحيوان الطاهر كالخيل والهِرَرةِ إلى جسم الإنسان؟ وهو المعنى الذي أشار إليه الشوكانيُّ ـ رحمه الله ـ بقوله: «قولُه: ﴿أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ[الأنعام: ١٤٥]: ظاهرُ تخصيصِ اللَّحم أنه لا يَحرُم الانتفاعُ منه بما عدا اللحمِ؛ والضميرُ في ﴿فَإِنَّهُۥ[الأنعام: ١٤٥] راجعٌ إلى اللَّحم أو إلى الخنزير»(٤).

وبناءً على هذا الرأي، وما دام الأمرُ لا يتعلَّق بالأكلِ فإنَّه لا حرَجَ في التَّداوي بجسم الخنزير ولو لغيرِ ضرورةٍ بأيِّ ‏جزءٍ مِنْ أجزائهِ بغير الأكلِ منه كالطَّلْيِ بشحمِه والانتفاعِ به بالتَّبخيرِ بأجزائه، أو دخولِ أجزائه في مركَّبٍ طبِّيٍّ كالأنسولين، أو الجيلاتين، أو استعمالِه في عمليَّةٍ طبِّيَّةٍ بزرعِ عُضوٍ منه في جسمِ الإنسان ولو كان داخليًّا ما عَدَا أَكْلَ لحمِه، وذلك لعموم الأدلَّة المُبيحةِ للتداوي بالطاهر، وذلك ‏لطهارته مِنْ جهةٍ، وعدمِ حُرمةِ الانتفاع به ـ على هذا القولِ مِنْ جهةٍ أخرى ـ إلَّا ما استثناهُ الدليلُ.

وهذا بخلافِ مَنْ رجَّح نجاستَه وحُرمةَ الانتفاعِ بأيِّ عضوٍ مِنْ أعضائه فهذا ليس له مِنْ سبيلٍ لتجويز التَّداوي به إِنْ قال به إلَّا أَنْ يحصر تجويزَ التداوي به في حالِ الاضطرار عند تعذُّر البديلِ المُباحِ أو الأقلِّ حُرمةً، عملًا بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ١٧٣[البقرة: ١٧٣]، والتحريمُ حكمٌ شرعيٌّ لا يتعلَّق بالذَّوات والأعيانِ وإنَّما يتعلَّق بأفعال المكلَّفين، وتقديرُه هنا: الأكل، أي: إنَّما حرَّم عليكم أَكْلَ هذه المذكوراتِ ... فمَنْ اضْطُرَّ إليه أي: إلى أكلِها فلا إِثمَ عليه، وبقولِه تعالى: ﴿فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِي مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٣[المائدة]، وبقوله سبحانه: ﴿وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ[الأنعام: ١١٩]، قياسًا للتداوي بالأكل على الأكل للمُضطَرِّ في المَخمَصة، لأنَّ سياقَ الآياتِ في خصوص الأكل في المَخمَصةِ لا في ما يعمُّ التداويَ بالأكل أو الاستعمال الداخليِّ للمرض ونحوِه وإِنْ كان لفظُ جملةِ الضرورة عامًّا، لا سيَّما مع التصريح بالمَخمَصة في آية المائدة والأكلِ في آية الأنعام، وضِمنَ هذا المنظورِ يقول النوويُّ ـ رحمه الله ـ: «إذا انكسر عظمُه فينبغي أَنْ يَجبُرَه بعظمٍ طاهرٍ؛ قال أصحابُنا: ولا ‏يجوز أَنْ يَجبُره بنجسٍ مع قُدرَتِه على طاهرٍ يقوم مَقامَه؛ فإِنْ جبَرَه نُظِر: إِنْ كان محتاجًا إلى ‏الجبر ولم يجد طاهرًا يقوم مَقامَه فهو معذورٌ؛ وإِنْ لم يحتَجْ إليه أو وجَدَ طاهرًا يقوم مَقامَه أَثِمَ ‏ووجَبَ نزعُه إِنْ لم يُخَفْ منه تلفُ نفسِه ولا تلفُ عُضوٍ»((٥)‏)، وهذا القول ـ كما تقدَّم ـ عند مَنْ يجوِّز التداويَ بالاستعمال الداخليِّ للنَّجِس إذا اضْطُرَّ إليه، بخلافِ مَنْ لا يُجيزُه مُطلَقًا ولو في الضرورة، لكون الآيات وردَتْ في خصوص الأكل عند المَخمَصة، والتَّداوي ولو بالأكل ليس في معناه، مع كونِ اندفاعِ الضرورةِ به غيرَ متيقَّنٍ.

أمَّا الاستعمالُ الخارجيُّ بغير الأكل وزرعِ العضوِ النَّجِسِ وجبرِ الكسرِ بالعظمِ النَّجسِ فالأمرُ فيه أَقرَبُ؛ لأنَّ مباشرةَ المحرَّمِ والنَّجسِ أهونُ مِنْ أكلِه أو شُربه.

ويجدر التنبيهُ إلى أنَّ الاستشفاءَ بالمحرَّم أو النَّجس كخمرٍ أو زرعِ عُضوٍ مِنْ حيوانٍ محرَّمٍ شرعًا والتداويَ به قد وردَتْ أحاديثُ تنهى عنه، منها: حديثُ أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً؛ فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»(٦)، وحديثُ وائلٍ بنِ حُجْرٍ الحضرميِّ رضي الله عنه أنَّ طارِقَ بنَ سُوَيْدٍ الجُعفِيَّ رضي الله عنه سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الخَمْرِ، فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: «إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ»، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ»(٧)، وعن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه موقوفًا: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ»(٨)، فهل النهيُ عن التداوي بالمحرَّم بالأكل ونحوِه مختصٌّ بالأحوال العاديَّة وما سوى الضرورةِ إلى المحرَّم، أم إباحةُ الأكلِ وما مِنْ جنسِه للضَّرورة مختصٌّ بما كان للمَخمَصة دون ما كان للتداوي بالأكل ونحوِه؟ علمًا أنَّ الخلافَ القائمَ بين الجمهور وغيرِهم محلُّه ما إذا لم تَقُمْ قرينةٌ على تخصيصِ لفظ الآيةِ العامِّ بسبب نزول القرآن أو بسببِ ورود الحديث؛ أمَّا إذا قامت تلك القرينةُ فإنَّ الحكم يكون مقصورًا على سببه باتِّفاقهما.

ولا يخفى أنَّ مَنْ قصَرَ النهيَ في حديثِ وائلِ بنِ حُجرٍ رضي الله عنه على سببه ـ وهي الخمرةُ ـ منَعَ التداويَ بها مُطلَقًا وأجاز التداويَ بالمحرَّم مِنْ غيرها عند الاضطرار؛ وأيَّد ذلك بدلالةِ التَّنبيه على أنَّ حصولَ الشِّفاء به يدلُّ على عدمِ تحريم التَّداوي به، كما يدلُّ عليه حديثُ وائلِ بنِ حُجرٍ رضي الله عنه بمفهوم المخالفة أو بدلالةِ العكس؛ إذ لو كان المعنيُّ بالتَّداوي المنهيِّ عنه: التداويَ بعمومِ المحرَّمات لم يحصل بها الشِّفاءُ(٩) كما أَخبرَ الصادقُ المصدوقُ.

أمَّا مَنْ عمَّم النهيَ في حديثِ أبي الدَّرداء وأثرِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنهما على كُلِّ ما يَشمَلُه اللفظُ العامُّ ولم يَقصُره على الخمر؛ فهل يلحق النهيُ عن التداوي بالمحرَّم بالأكل ونحوِه بباب الأطعمة إلحاقًا قياسيًّا، فيكون ـ عندئذ ـ التداوي بالخنزير ومشتقَّاتِه بوجهٍ عامٍّ جائزًا في حال الاضطرار أم لا؟

وصورتُه في باب الأطعمة: أنه يُرخَّص أكلُ المَيْتة أو المحرَّم عند الاضطرار حفاظًا على النفس أو البدن، وقد تقدَّمت آياتٌ مبيحةٌ لذلك، منها: قولُه تعالى: ﴿فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِي مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٣[المائدة]، لكنَّ السؤالَ الذي يعيد نفسَه هو: هل يصحُّ قياسُ التداوي بالمحرَّم في باب الطِّبِّ في حالة الضَّرورة على جواز الأكل منه للضرورة في باب الأطعمة؟

فمِنْ أهل العلم مَنْ منَعَ مِنْ ذلك، ومنهم مَنْ أجازه إلحاقًا قياسيًّا بالأطعمة بجامع الحفاظ على البدن، ومنهم مَنْ فرَّق بين الخمر وما في معناها وبين ما خالفها في حصول الشِّفاء به دونها، وبما تَقرَّر ـ سابقًا ـ مِنْ أنَّه لمَّا حصَلَ الشِّفاءُ ببعض المحرَّمات دلَّ على عدمِ تحريم التداوي بها؛ إذ لو كان المعنيُّ بالتداوي المنهيِّ عنه: التداويَ بعموم المحرَّمات لم يحصل الشِّفاءُ بأيٍّ منها كما جاء في الحديث، والواقعُ خلافُه؛ قال ابنُ بطَّالٍ ـ رحمه الله ـ تعليقًا على ظاهر قول الزُّهريِّ: «لا يَحِلُّ شُرْبُ بَوْلِ النَّاسِ لِشِدَّةٍ تَنْزِلُ لأنَّهُ رِجْسٌ؛ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ[المائدة: ٤، ٥]»(١٠): «وأمَّا أبوالُ النَّاسِ فهي مثلُ المَيْتة والخمرِ في التَّحريم، ولم يختلفوا في جوازِ أكلِ المَيْتة عند الضرورة، فكذلك البولُ؛ والفقهاءُ على خلافِ قولِ ابنِ شهابٍ»(١١).

فالحاصل:

أنه ـ في تقديري ـ يجوز التَّداوي بالمحرَّمِ أو النَّجِس في حال الاضطرارِ عند تعذُّر تحقُّقِ الشِّفاءِ بدعوةٍ صادقةٍ أو رُقيةٍ نافعةٍ أو بقوَّةِ للقلبِ وحُسنِ التَّوكُّل إلى غير ذلك مِنَ الأسباب الكثيرة غيرِ الدواء، وعند تعذُّرِ وجود البديل مِنَ الدواءِ المُباحِ أو ما هو دونه في الحُرمة، أمَّا إذا قُدِر على بديلٍ مِنَ المُباح أو ما هو دونه في الحُرمةِ فإنه لا يُصارُ إلى الأشدِّ حرمةً مع القدرة على البديل لأنَّ «الضرورةَ تُقدَّرُ بقَدْرِها».

وأنَّ ما نُقِل إلى جسم الإنسان مِنْ أعضاءِ حيوانٍ نجسٍ أو زُرِع فيه، فإنَّ ذلك جائزٌ، ويُعطَى الجسمُ بعد زراعتِه حُكْمَ الطهارة، خاصَّةً إذا تَلاءمَ العضوُ النَّجسُ مع جسمه وتَأقلمَ معه فيصير جزءًا مِنْ أعضائه، عملًا بطهارةِ أغلبِ أَعضائِه الأصليَّةِ وإعطاءِ حُكمِ الأغلبِ للكُلِّ والمجموع؛ لأنَّ «مُعظَمَ الشَّيءِ يقوم مَقامَ كُلِّه» و«الغالبُ له حكمُ الكُلِّ»؛ الشأنُ في ذلك كشأنِ جسمِ الإنسان، يحمل في أمعائه وأحشائِه النَّجاسةَ يقينًا؛ إذ لا تخلو مِنْ بولٍ وغائطٍ دائمَيْن، ومع ذلك فيُحكَم على جميع البدن بأنه طاهرٌ، وإنَّما يُحكَم على الجزء المُنفصِل عن البدن بالنَّجاسة إجماعًا.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١١ مِنَ المحرَّم ١٤٤٥ﻫ
الموافـق ﻟ: ٢٩ يـــوليــو ٢٠٢٣م



(١) انظر الفتوى رقم: (1318) الموسومة ﺑ: «في حكمِ التَّداوِي بِدُودةِ العَلَقِ» على موقعي الرسميِّ.

(٢) «السيل الجرار» للشوكاني (١/ ٢٦).

(٤) «فتح القدير» للشوكاني (٢/ ١٧٢).

(٥) «المجموع» للنووي (٣/ ١٣٨).

(٦) أخرجه أبو داود في «الطِّبِّ» (٣٨٧٤) بابٌ في الأدوية المكروهة، وحسَّنه الألبانيُّ في «السِّلسلة الصَّحيحة» (١٦٣٣).

(٧) أخرجه مسلمٌ في «الأشربة» (١٩٨٤) بابُ تحريمِ التَّداوي بالخمر.

(٨) أخرجه البخاريُّ معلَّقًا بصيغة الجزم في «الأشربة» (١٠/ ٧٨) بابُ شرابِ الحلواء والعسل؛ وقال الزُّهريُّ: لا يَحِلُّ شُربُ بولِ النَّاسِ لِشِدَّةٍ تنزل لأنه رجسٌ؛ قال الله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ[المائدة: ٤، ٥]، وقال ابنُ مسعودٍ في السَّكَر: إنَّ الله لم يجعل شفاءكم فيما حرَّم عليكم، وانظر: «فتح الباري» (١٠/ ٧٩)، و«تغليق التعليق» (٥/ ٢٩) كلاهما لابن حجر، و«السِّلسلة الصَّحيحة» للألباني (٤/ ١٧٥).

(٩) والواقعُ شاهدٌ بخلافه في كثيرٍ منها، مع أنَّ بعضها قد يكون شرًّا وأَضرَّ مِنَ الخمر كالحشيش والمخدِّرات التي تُستعمَل في تسكين الآلام وفي التَّخديرِ لإجراء العمليَّات؛ فمع كونها أضرَّ مِنَ الخمر إلَّا أنَّ نَفْعَها في ذلك لا يُنكَر ولا يُستغنى عنه؛ وهي وإِنْ لم ينصَّ على تحريمها نصٌّ خاصٌّ لعدم وجودها في الزمان الأوَّل إلَّا أنها محرَّمةٌ في الأصلِ بالنظر الصحيح وبالنصوص العامَّة المحرِّمة لِمَا فيه ضررٌ لا سيَّما على العقل.

(١٠) أخرجه البخاريُّ معلَّقًا بصيغة الجزم (١٠/ ٧٨).

(١١) «شرح صحيح البخاري» لابن بطَّال (٦/ ٧٠).