في حكم الطلاقِ بعدَ الخُلعِ | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م

الفتوى رقم: ١٣٢٧

الصنف: فتاوى الأسرة ـ انتهاء عقد الزواج ـ الخُلع

في حكم الطلاقِ بعدَ الخُلعِ

السؤال:

هذا أخٌ مُغترِبٌ يقولُ: طلَّقْتُ أهلي في غيرِ غضبٍ ثلاثًا في مجلسٍ واحدٍ، وكانت في حيضةٍ وكنتُ أعتقدُ عدمَ نفاذِ الطَّلاق في مدَّةِ الحيضِ، فانتظرتُ حتَّى طهُرَتْ مِنْ حيضها فطلَّقْتُها دون مراجعتها بعد بضعةِ أيَّامٍ فقط ولم أندم بعدها؛ ثمَّ راجعتُها بعد ذلك وعقدتُ عليها العقدَ المدنيَّ، وبعد أشهُرٍ قليلةٍ أَعَدْتُ طلاقَها بطلبٍ منها وردَّت عليَّ المهرَ وكانت في حيضةٍ، فانتظرتُ حتَّى طهُرَتْ مِنَ الحيض وأَعَدْتُ طلاقَها مِنْ غيرِ غضبٍ، ولا أذكر أنَّني نَدِمتُ بعدها؛ ثمَّ راجعتُها بعدها وأعطَيْتُها مهرَها دون عقدٍ جديدٍ، ولا أدري هل كان هذا بعد العِدَّة أو في أثنائها؛ ثمَّ طلَّقْتُها في حالةِ غضبٍ وندِمْتُ بعدها مباشرةً؛ ثمَّ بعد ذلك بأشهرٍ أعدتُ تطليقَها في غيرِ غضبٍ، ولا أذكر أنَّني نَدِمْتُ بعدها؛ ثمَّ بعد ذلك بأيَّامٍ معدودةٍ طلَّقْتُها في غيرِ غضبٍ، وصدَرَ الطلاقُ عن اتِّفاقٍ بيننا وأَشهَدْنا على هذا الطَّلاق؛ ثمَّ أَعَدْتُ طلاقَها في غيرِ غضبٍ مع شاهدَيْن، ولا أذكر أنَّني نَدِمْتُ بعدها؛ ثمَّ بعدها بأيَّامٍ أَعَدْتُ إثباتَ الطلاق بشاهدَيْن مِنْ غيرِ غضبٍ؛ وبعدها طلَّقْنا عن طريق المحكمة؛ ثمَّ راجعتُها دون عقدٍ، وطلَّقتُها في غضبٍ وندِمْتُ على ذلك بعدها؛ فهل تَحِلُّ لي هذه المرأةُ أم لا؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فاعْلَمْ أنَّ طلاقَ المرأةِ في الحَيضِ أو في طُهرٍ جامعَها فيه ـ وهو المسمَّى ﺑ «طلاق البِدعةِ» ـ مُجمَعٌ على تحريمِه، لذلك يكون فاعلُه آثمًا، فضلًا عن تَعدِّيه بإكثاره مِنَ الطَّلاق على عقدٍ سمَّاه اللهُ في كتابهِ بالميثاقِ الغليظ في قوله تعالى: ﴿وَكَيۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ٢١[النساء] في غيرِ وجهِه الشرعيِّ، ممَّا يُعَدُّ فيه فاعلُه لاعبًا بأحكام الله ومُتجرِّئًا عليها، وغيرَ مُمتثِلٍ للواجب فيها، وقد نهى اللهُ عن اتِّخاذِها هُزُوًا في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُوٗا[البقرة: ٢٣١]؛ لأنَّ أحكام الله تعالى أنزلها بالحقِّ والصِّدقِ والجِدِّ، ولم يُنزِلها عبثًا بأحكامها ولا لعبًا بتعاليمها، ولهذا يستوجِب الوقوعُ في هذا الإثمِ توبةً صادقةً مِنْ فاعلِ هذا الصنيع ـ أوَّلًا ـ ثمَّ هو مُطالَبٌ ـ ثانيًا ـ بتوبةٍ أخرى على تأخيرِ السُّؤالِ عن وقتِ الحاجةِ إليهِ؛ قال تعالى: ﴿فَسۡـَٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ[النحل: ٤٣؛ الأنبياء: ٧]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ العِيِّ السُّؤَالُ»(١).

فمَنْ طلَّقَ زوجتَه ـ وهي حائضٌ ـ أو طلَّقها بعد طُهرٍ جامَعَها فيه، أو طلَّقَها ثلاثًا في طُهرٍ؛ فهو ـ كما تقدَّم ـ طلاقٌ بدعيٌّ محرَّمٌ يأثَم فاعِلُه؛ لأنه مُتَعَدٍّ فيه حدودَ ربِّه، عاصٍ ظالمٌ لنفسه، وهو قولُ عامَّةِ أهل العلم، غير أنهم يختلفون في وقوع طلاق الحائض: فذَهَبَ الجماهيرُ مِنَ السلف والخلف(٢) إلى وقوعه فيُحْسَبُ الطلاقُ عندهم، وهو مذهبُ الأئمَّةِ الأربعة(٣)، وهو الأقوى دليلًا والأصحُّ نظرًا، ويكفي في ذلك ـ نصًّا في موضع الخلاف ـ ما رواهُ نافعٌ عن ابنِ عمر رضي الله عنهما: «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ـ وَهِيَ حَائِضٌ ـ فَأَتَى عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً»(٤)، وبهذا أفتى ابنُ عمر رضي الله عنهما وهو صاحبُ القصَّةِ وراويها وهو أعلمُ بما روى؛ فقَدْ روى نافعٌ قال: «فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ـ وَهِيَ حَائِضٌ ـ يَقُولُ: أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَهَا ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، وَأَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ وَبَانَتْ مِنْكَ»(٥)، علمًا أنَّ الغضبَ ولو حصل فلا تأثيرَ له في الحكم ـ في هذه الأحوال ـ  لعزمِه على الطلاقِ دون إغلاقٍ، فضلًا أنه وقع بعد الخُلع ولم يجدِّد العقدَ بعده.

هذا، والزوجُ السائل أَوقعَ الطلقةَ الأولى رجعيَّةً في الحيض، وأمَّا الطلقة بعد خروجها مِنَ الحيض فإنَّما هي تأكيدٌ للأولى باعتبارِ أنه لم يراجعها لا بقولٍ ولا بفعلٍ؛ لأنَّ الطَّلقةَ إنَّما تُحتسَبُ مِنَ الطَّلاق بعد العقدِ أو بعد رجعةٍ صحيحةٍ.

والفُرقة التي كانت بطلبٍ منها وافتدَتْ منه نفسَها بردِّها عليه مَهْرَه فهي خُلعٌ لا يُحتسَبُ مِنَ الطلاق لأنه فسخٌ وفُرقةٌ بائنةٌ لا رجعةَ فيها إلَّا بعقدٍ جديدٍ.

وكُلُّ الطلقات الأخرى الواقعة بعد الخُلع فلَاغِيَةٌ لا تُحتسَبُ لأنها لم تُصادِف محلًّا صحيحًا، إذ لم تكن ـ وقتَها ـ زوجتَه؛ بل أجنبيَّةً عنه؛ إذ المعلومُ أنَّه لا يملك عليها حقَّ الرَّجعةِ في الخُلع بالنَّصِّ وإجماعِ أهل العلم، فلا ترجع إليه إلَّا بعقدٍ جديدٍ كاملِ الشروط والأركان، وعقدُ الزواج مُنتفٍ بينهما لم يتمَّ إبرامُه ـ أصلًا ـ حتَّى يتسنَّى لها الرجوعُ إليه وتَحِلَّ له شرعًا.

وحاصلُ ما تقدَّم:

أنَّ هذا الرَّجل يمكنه أَنْ يُرجع أهلَه بعد وقوع الخُلع؛ لكِنْ بعقدٍ جديدٍ ومهرٍ جديدٍ وبشرطِ رِضَى المرأة ووليِّها، وعليه طلقةٌ واحدةٌ صحيحةٌ محسوبةٌ أَوقعَها على هذهِ المرأةِ، وهي التي كانت قبل الخُلعِ وبَقِيَتْ له طلقتان، أمَّا الخُلع فلا يُعَدُّ طلقةً ـ على الصَّحيح مِنْ أقوال أهل العلم ـ بل هو فُرقةٌ بائِنةٌ(٦)، وأمَّا ما وقَعَ مِنْ طلاقٍ بعد الخُلعِ ـ في مسألة السائل ـ فلا عِبرةَ به على ما سبَقَ بيانُه لعدمِ تجديده العقدَ لجهلِه بالحكم، معَ لزومِ توبةِ الرَّجل مِنْ هذا الفعلِ وعزمِهِ على عدمِ الرُّجوعِ إلى مِثلِه.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢١ جمادى الآخِرة ١٤٤٤هـ
المُــوافق ﻟ: ١٣ جــــانـــفي ٢٠٢٣م



(١) أخرجه أبو داود في «الطهارة» بابٌ في المجروح يتيمَّم (٣٣٦) مِنْ حديثِ جابرٍ رضي الله عنه؛ وأخرجه برقم: (٣٣٧)، وابنُ ماجه في «الطهارة» بابٌ في المجروح تُصيبُه الجنابةُ فيخاف على نفسه إِنِ اغتسل (٥٧٢)، مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٤٣٦٣).

(٢) انظر: «الكافي» لابن عبد البرِّ (٢٦٣)، «المغني» لابن قدامة (٣/ ٩٩)، «القوانين الفقهيَّة» لابن جُزَيٍّ (٢١٩)، «الإنصاف» للمرداوي (٨/ ٤٤٨)، «مغني المحتاج» للشربيني (٣/ ٣٠٧).

(٣) وخالَفَ في ذلك بعضُ السلف القائلين بعدم وقوع الطلاق في الحيض ولا يُحْسَبُ، وبه قال أهلُ الظاهر، وهو مذهبُ ابنِ تيميَّة وابنِ القيِّم وغيرهم؛ [انظر: «المحلَّى» لابن حزم (١٠/ ١٦١)، «المغني» لابن قدامة (٧/ ١٠٠)، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٣٣/ ٦٦)، «زاد المَعاد» لابن القيِّم (٥/ ٢١٨)].

(٤) أخرجه أبو داود الطيالسيُّ (١/ ٦٨)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (١٤٩٢٨)، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما. قال الألبانيُّ في «إرواء الغليل» (٧/ ١٢٦): «وإسنادُه صحيحٌ على شرط الشيخين»، وفي مسلمٍ في «الطلاق» (١٤٧١) مِنْ طريقِ سالم بنِ عبد الله: «وَكَانَ عَبْدُ اللهِ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهَا».

(٥) أخرجه مسلمٌ في «الطلاق» (١٤٧١) عن ابنِ عمر رضي الله عنهما؛ [انظر الفتوى: (١٣٥): على الموقع الرَّسميِّ، الموسومة ﺑ: «في حكم الطلاق في الحيض»].

(٦) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٣٢/ ٣٠٩)؛ وجمهورُ العلماء يَعُدُّون الخُلعَ طلاقًا بائنًا، الصحيح ما ذكَرْنا للفوارق الكثيرة الموجودة بين الخُلع والطَّلاق؛ [انظر الفتوى رقم: (٨٨٧) على الموقع الرَّسميِّ، الموسومة ﺑ: «في الخلع وما يخالف فيه الطلاق»].