فصلٌ [في إقراره صلَّى الله عليه وسلَّم وأقسامه] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



فصلٌ
[في إقراره صلَّى الله عليه وسلَّم وأقسامه]

•  قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٣١]:

«وَأَمَّا الإِقْرَارُ بأَنْ يُفْعَلَ بحَضْرَةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فِعْلٌ وَلاَ يُنْكِرُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ؛ لأَنَّهُ صلَّى الله عليه وسلَّم لاَ يُقِّرُّ عَلَى المُنْكَرِ».

[م] تناول المصنِّفُ ـ في هذا الفصل ـ الإقرارَ على الفعل بحضرته صلَّى الله عليه وسلَّم، وأهل العلم يفصِّلون في ذلك بين الإقرار على الأقوال والإقرار على الأفعال.

والإقرارُ على الأقوال على قسمين:

ـ إمَّا أن يتعلَّق بأمور الدِّين، وذلك إذا وقع الحكم بين يديه صلَّى الله عليه وسلَّم فأقرَّه، فإقرارُه يدلُّ على صِحَّة حكم الشرع في تلك المسألة، ويسمَّى هذا النوع ﺑ «الإقرار على حكم»، كاعتراف ماعزٍ بالزِّنَى أمامَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال أبو بكر رضي الله عنه: «إنَّكَ إِنِ اعترفتَ الرابعةَ رَجَمَكَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم»، فسكت عنه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم(١)، فدلَّ ذلك على إصابته الحكم، وكقول العجلاني للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «الرجل يجد مع امرأته رجلًا، إن قتل قتلتموه، وإن تكلَّم جلدتموه، وإن سَكَتُّ سَكَتُّ عن غيظٍ»، فسكتَ عنه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم(٢)، فدلَّ على صِحَّةِ كلامه وإصابته للحقِّ.

ـ وإمَّا أن يكون إقرارُه على أقوالٍ متعلِّقةٍ بالدنيا والأمور المغيبة، فإقرارُه لا يدلُّ على ثبوت المدلول وصدق خبره، مثل ما كان يطعن المنافقون في نسب أسامة بن زيد رضي الله عنهما بسبب التخالف بينهما في اللون، فسكوته لا يدلُّ على صدق الخبر، ويدلُّ عليه أنَّ القائف لما رأى أقدام زيد وأسامة وقد غَطَّيَا رؤوسهما، قال: «إنَّ هذه الأقدام بعضها من بعض» فسُرَّ به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأعجبه(٣).

أمَّا الإقرار على الأفعال إن لم يكن فيها قربة فإنه يدلُّ على نفي الحرج، كإقراره على أكل الضبِّ والجراد مع أنه لم يأكل منهما، وإلَّا فإقراره يدلُّ على صحَّة الفعل إن كان قربة، كصلاة ركعتين بعد صلاة الصبح من قصَّة قيس ابن قهد(٤) رضي الله عنه فسكت عنه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم ينكر عليه(٥).

[في شرط الإقرار الذي يكون حجّة]

• وقول الباجي -رحمه الله- في الصفحة السابقة بعدما ذكر قصِّة ذي اليدين رضي الله عنه: «وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ صلَّى الله عليه وسلَّم الكَلاَمَ فِي الصَّلاَةِ لِيَفْهَمَ الإِمَامُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِهِ وَصِحَّتِهِ».

[م] هذا الذي ذكره المصنِّف هو ما كان الفعل بحضرته وعلى عِلمٍ به(٦).

أمَّا إقراره على فعل في زمانه وكان مشهورًا فمثاله ما ثبت في قصَّة معاذ رضي الله عنه أنه كان يصلي العشاء مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ثمَّ ينصرف إلى قومه، فيصلي بهم، فاستدلَّ به على جواز اقتداء المفترض بالمتنفِّل، إذ مثل هذا لا يخفى عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فإنَّ غالب الظنَّ علمه بالأئمَّة الذين يصلون في قبائل المدينة، لا سيما وقد ثبت في الصحيحين شكوى الأعرابي للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن إطالة معاذ رضي الله عنه في صلاته فقال: «أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذٌ ؟»(٧).

وقد يقع الفعل في زمانه صلَّى الله عليه وسلَّم ويكون خفيًّا غير مشتهر، أي: لم ينتشر انتشارًا يبعد معه أن يعلمه، فهذا لا حُجَّة فيه، بخلاف ما وقع بحضرته أو في زمانه وكان مشتهرًا.

مثاله: قول بعض الصحابة رضي الله عنهم: «كُنَّا نُكْسِلُ على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولا نَغْتَسِلُ(٨)»(٩)، والحديث وإن كان لا يصحُّ إلَّا أنه أوتي به للتمثيل على احتمال عدم علمه، لذلك فلا يكون حُجَّة(١٠).

هذا، ويشترط في الإقرار الذي يكون حُجَّة الشروط التالية:

ـ أولًا: أن يَعلم بوقوعه سواء بحضرته صلَّى الله عليه وسلَّم أو زمانه، ويكون قادرًا على الإنكار.

ـ ثانيًّا: أن لا يكون قد بيَّن حكمه بيانًا يسقط عنه وجوب الإنكار.

ـ ثالثًا: أن لا يكون المسكوت عنه صادرًا من كافر، فلا عِبرة فيه، لما علم بالضرورة إنكاره صلَّى الله عليه وسلَّم لما يفعله الكفار(١١).

 



(١) متفق عليه، أخرجه البخاري (١٢/ ١٣٦)، ومسلم (١١/ ١٩٢)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(٢) أخرجه مسلم (١٠/ ١٢٧)، وأبو داود (٢/ ٦٨٥)، وابن ماجه (١/ ٦٦٩)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(٣) متفق على صحَّته، أخرجه البخاري (٧/ ٨٧)، (١٢/ ٥٦)، ومسلم (١٠/ ٤٠)، وأبو داود (٢/ ٦٩٨)، وابن ماجه (٢/ ٧٨٧)، والترمذي (٤/ ٤٤٠)، والنسائي (٦/ ١٨٤) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(٤) هو الصحابي قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة الأنصاري المدني جدّ يحي بن سعيد التابعي المشهور، ويلقَّب: قيس بن قهد من بني مالك بن النجار شهد بدرًا وما بعدها، وتوفي في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنهما.

[انظر ترجمته في: «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (٧/ ١٠١)، «الاستيعاب» لابن عبد البر (٣/ ١٢٩٧)، «أسد الغابة» لابن الأثير (٤/ ٢٢٣)، «الكاشف» للذهبي (٢/ ٤٠٦)، «الإصابة» لابن حجر (٣/ ٢٥٥، ٢٥٧)].

(٥) سبق تخريجه، انظر: الرابط.

(٦) انظر المصادر المثبتة على هامش «الإشارة» (٢٣٢).

(٧) متفق على صحَّته، أخرجه البخاري (٢/ ١٩٢، ٢٠٠، ١٠/ ٥١٥)، ومسلم (٤/ ١٨١)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٣/ ٨٥)، والبغوي في «شرح السُّنَّة» (٣/ ٧١)، من حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما.

(٨) قال النووي في «شرح مسلم» (٤/ ٣٦): «اعلم أنَّ الأُمَّةَ مجتمعةٌ الآن على وجوب الغسل بالجماع وإن لم يكن معه إنزال، وعلى وجوبه بالإنزال، وكان جماعة من الصحابة على أنه لا يجب إلَّا بالإنزال ثمَّ رجع بعضُهم، وانعقد الإجماع بعد الآخرين. وفي الباب حديث: «إِنَّمَا المَاءُ مِنَ المَاءِ» مع حديث أُبَيِّ بن كَعْبٍ عن رسول اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم في الرجل يأتي أهله ثمَّ لا ينزل، قال: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ»، وفيه الحديث الآخر: «إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الغُسْلُ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ». قال العلماء: العمل على هذا الحديث. وأمَّا حديث «الماء من الماء» فالجمهور من الصحابة ومَن بعدهم قالوا: إنه منسوخ، ويعنون بالنسخ أنَّ الغسل من الجماع بغير إنزال كان ساقطًا ثمَّ صار واجبًا. وذهب ابن عباس رضي الله عنهما وغيره إلى أنه ليس منسوخًا بل المراد به نفي وجوب الغسل بالرؤية في النوم إذا لم ينزل، وهذا الحكم باق بلا شكَّ، وأمَّا حديث أُبي بن كعب ففيه جوابان: أحدهما أنه منسوخ، والثاني أنه محمول على ما إذا باشرها فيما سوى الفرج».

قلت: والجواب الأول هو الصحيح، لتصريح أُبَيِّ بن كَعْبٍ رضي الله عنه بالنسخ، والدليل الناسخ حيث قال رضي الله عنه: «إنَّ المَاءَ مِنَ المَاءِ كَانَتْ رُخْصَةً رَخَّصَهَا رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فِي بَدْءِ الإِسْلَامِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالاغْتِسَالِ بَعْدُ»، وفي رواية: «ثُمَّ أَمَرَ بِالغُسْلِ وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ»، والحديث صحيح تقدَّم تخريجه.

(٩) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (٥/ ٣٥)، والهيثمي في «كشف الأستار» (١/ ١٦٤)، وفي إسناده محمَّد بن إسحاق بن يسار المطلبي. قال عنه ابن حجر: صدوق مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين، وعن شر منهم، ووصفه بذلك أحمد والدارقطني.

[انظر: «ميزان الاعتدال» للذهبي (٣/ ٤٦٨)، «تعريف أهل التقديس» لابن حجر (١٣٢)، «التبيين لأسماء المدلسين» لابن العجمي (٤٧)].

(١٠) انظر: «شرح اللمع» للشيرازي (١/ ٥٦٠ ـ ٥٦١)، «مفتاح الوصول» للتلمساني (٥٨٨).

(١١) انظر: «الفتح المأمول» للمؤلف (١٥٦).

الزوار