فصلٌ [في مفهوم الحصر] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



فصلٌ
[في مفهوم الحصر]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٩٢]:

«وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: فَهُوَ الحَصْرُ، وَلَهُ لَفْظٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ: «إِنَّمَا»، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»(١)، فَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ المُعْتِقِ لاَ وَلاَءَ لَهُ».

[م] جعل المصنِّف لفظ الحصر واحدًا وهو «إنما» وإلى هذا ذهب الباقِلَّانيُّ وجماعةٌ من المتكلِّمين، وذهبت جماعة من المالكية والشافعية إلى أنَّ للحصر أدوات أخرى غير «إنما»، وهي: تقدم النفي قبل ألفاظ الاستثناء(٢)، وتقديم المعمولات مثل قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[سورة الفاتحة: ٥]، أي: لا نعبد إلَّا إيَّاك، وقولِه تعالى: ﴿وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ[سورة الأنبياء: ٢٧]، أي: أنهم لا يعملون إلَّا بأمره، والمبتدأ مع الخبر، مثل قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ»(٣)، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمُ»(٤)، فيدلُّ على حصر التحريم في التكبير، والتحليل في التسليم، والشفعة فيما لم يقسم، وقد أخذ الجمهور بهذه الألفاظ، خلافًا لأكثر الأحناف الذين لم يشترطوا ذلك(٥)، وعدم قصر مفهوم الحصر على كلمة «إنما» هو مذهب الشيرازي، واختاره القرافي، وعرفه بقوله: «هو إثباتُ نقيضِ حُكْمِ المنطوقِ للمسكوت عنه بصيغةِ «إنما» ونحوها»(٦).

هذا وكلمة «إنما» تدلُّ على الحصر عند الجمهور؛ لأنها مركَّبةٌ من جزءين هما: «إنَّ» المشدَّدة الموضوعة للإثبات، و«ما» للنفي، وإذا كانت تفيده في حالة انفراد فينبغي استصحابه في حالة التركيب، وقد جاء من استعمال النصوص الشرعية، والأشعار العربية، ما يحسن فيها الحصر، والأصل الحقيقة مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ[النساء: ١٧١]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ[الرعد: ٧]، وقد فسّر ذلك بصريح الحصر في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ[الأحقاف: ٩]، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»(٧)، وقد فسّر بقولهم: «لا عمل إلَّا بالنية»(٨)، لذلك قال ابن تيمية: «الحصر في «إنما» من جنس الحصر بالنفي والاستثناء»(٩).

[في إفادة «إنما» الحصر عند تقييد الحكم بها]

•  وفي [ص ٢٩٣] تابع الباجي -رحمه الله- قوله عن الحصر بما نصه:

«نَحْوُ قَوْلِكَ: إِنَّمَا الكَرِيمُ يُوسُفُ... وَإِنَّمَا أَرَادَ إِثْبَاتَ ذَلِكَ لِيُوسُفَ عليه السلام وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُ مَزِيَّةً فِي الكَلاَمِ عَلَى غَيْرِهِ، إِلاَّ أَنَّ الظَّاهِرَ مَا بَدَأْنَا به أَوَّلاً فَلاَ يُعْدَلُ عَنْهُ إِلاَّ بدَلِيلٍ».

[م] فعلى مذهب أكثر الحنفية أنَّ تقييد الحكم بلفظ «إنما» لا يدلُّ على الحصر، وإنما يدلُّ على إثبات الحكم المذكور ولا يدلُّ على نفي ما عداه، وبهذا قال الآمدي والطوفي(١٠) وغيرهما، وتعليل ذلك أن «إنما» مركبة من «إِنَّ» للتأكيد، وهي مختصّة بالدخول على الأسماء في الأصل و«ما» كافَّة أي: تكفُّ «إنَّ» وأخواتها عن العمل فيما بعدها، وتصيِّرها صالحة للدخول على الأفعال، وإذا كانت «ما» كافة فليست بنافية، فقولنا: «إنما الكريم يوسف» فإنه يدلُّ على إثبات الكرم ليوسف، ولا تنفي الكرم عن غيره من الناس(١١).

هذا، وقد اختلف العلماء في إفادة مفهوم «إنما» الحصر عند تقييد الحكم بها، فذهب أكثر الحنفية إلى عدم إفادتها الحصر مُطلقًا لا نطقًا ولا فهمًا، بل تؤكِّد الإثبات، وبهذا قال الآمديُّ والقرافي والطوفي(١٢) وجمهورُ النحويين، وذهب جمهور الحنابلة وبعض الحنفية والمالكية والشافعية إلى إفادتها الحصر، وبهذا قال أبو يعلى والمصنِّف والغزالي والفخر الرازي والبيضاوي وغيرهم(١٣)، وهو الصحيح(١٤)؛ لأنَّ «إنما» تفيد الإثبات والنفي، وتلحق بالاستثناء من النفي الذي هو إثبات إلحاقًا قياسيًّا، فإذا صحَّ القول: «لا كريم إلَّا يوسف» يفيد نفي الكرم عن غيره وتأكيد الكرم بإثباته له، فكذلك في تقييد الحكم بلفظ «إنما».

والخلاف في هذه المسألة معنويٌّ له آثارُه الفقهية، فمَن اعتبر الحصرَ المستفاد من لفظ «إنما» أثبت للمذكور تلك الصفة أو الحكم ونفاه عن غيره، ومن رأى إفادتها للتأكيد أو إثبات الحكم المذكور فإنه لم ينف ما عداه.

 



(١) هو طرفٌ من حديثٍ طويلٍ متفق عليه: أخرجه البخاري (٤/ ٣٦٩، ٣٧٦) (٥/ ١٨٥، ١٨٧، ١٩٠، ٣١٣، ٣٢٦)، ومسلم (١٠/ ١٤٠، ١٤٥) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(٢) ويمثِّل له الأصوليون بقوله تعالى: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ﴾ [الأنبياء: ٨٧]، فإنَّ الحصر بالنفي والإثبات يدلُّ على أنَّ غير الله سبحانه ليس بإله حقًّا، واعترض عن عدِّ هذه الأداة من المفهوم غلط، بل هي من المنطوق، وهو الصحيح؛ لأنَّ لفظة «لا» صريحة في النفي، ولفظة «إلَّا» صريحة في الإثبات، فكلٌّ من النفي والإثبات منطوقٌ صريحٌ، [انظر: «نشر البنود» للعلوي (١/ ١٠٢)، «مذكرة الشنقيطي» (٢٣٨)].

(٣) سبق تخريجه، انظر: الرابط.

(٤) أخرجه أحمد (٣/ ٢٩٦، ٢٩٩)، والبخاري (٤/ ٤٠٧، ٤٠٨، ٤٣٦) (٥/ ١٣٤، ١٢/ ٣٤٥)، وأبو داود (٣/ ٧٨٤)، وابن ماجه (٢/ ٨٣٤)، والترمذي (٣/ ٦٥٣)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٤/ ١٢٢)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (٦/ ١٠٢)، وابن الجارود في «المنتقى» (٢٤٧)، والبغوي في «شرح السُّنَّة» (٨/ ٢٤٠)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(٥) انظر: «البرهان» للجويني (١/ ٤٨٠)، «المنهاج» (٢٥)، «إحكام الفصول» كلاهما للباجي (٥١٣)، «تيسير التحرير» لبادشاه (١/ ١٠٢)، «نشر البنود» للعلوي (١/ ١٠٢).

(٦) «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (٥٧).

(٧) أخرجه أحمد (١/ ٢٥، ٤٣)، والبخاري (١/ ٩)، ومسلم (١٣/ ٥٣)، وأبو داود (٢/ ٦٥١)، والترمذي (١/ ١٧٩)، والنسائي (١/ ٨٥)، وابن ماجه (٢/ ١٤١٣)، من حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه.

(٨) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (١/ ١٢)، «موسوعة القواعد الفقهية» للبورنو (١٣٢).

(٩) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٨/ ٢٦٦).

(١٠) للطوفي قولان: أحدهما يوافق قول الآمدي كما في مختصره «البلبل»، والثاني ـ وهو آخر القولين ـ أنَّ «إنما» تفيد الحصر كما هو مذهب الجمهور.[انظر: «شرح المختصر» للطوفي (٢/ ٧٤٦)].

(١١) وقد حقَّق شيخُ الإسلام بأنَّ «ما» وإن لم تدلّ على النفي في «إنما» فإنها متضمِّنة له، قال: «كما أنَّ «إنَّ» إذا كفت ﺑ «ما» النافية صارت متضمِّنة للنفي والإثبات» «مجموع الفتاوى» (١٤/ ٤٢٩).

(١٢) هو أبو الربيع نجم الدين سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم المعروف بابن أبي العباس الطوفي الصرصري، فقيه حنبلي، قال عنه ابن رجب: «وكان شيعيًّا منحرفًا في الاعتقاد عن السنة»، ويقال: إنه تاب عن تشيعه، ونسب إليه أنه قال عن نفسه:

حنبلي رافضي ظاهري       أشعري إنها إحدى الكبر

له مصنفات كثيرة في فنون شتى، منها: «مختصر روضة الناظر»، وشرحه عليه، و«معراج الوصول إلى علم الأصول»، في أصول الفقه، و«بغية السائل في أمهات المسائل»، في أصول الدين، و«الإكسير في قواعد التفسير»، و«الرياض النواضر في الأشباه والنظائر». توفي سنة (٧١٦ﻫ).

انظر ترجمته في: «ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب (٢/ ٣٦٦)، «الدرر الكامنة» لابن حجر (٢/ ١٥٤)، «بغية الوعاة» للسيوطي (٢٦٢)، «الأنس الجليل» للعليمي (٢/ ٢٥٧)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٦/ ٣٩)، «جلاء العينين» لابن الآلوسي (٣٦).

(١٣) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٢٩٣).

(١٤) المثبتون للحصر ـ وهم الجمهور ـ يختلفون في الجهة التي تدلّ على الحصر، أهي النطق أم الفهم ؟

الزوار