فصل [في صحة نسخ العبادة قبل وقت الفعل] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 11 شوال 1445 هـ الموافق لـ 20 أبريل 2024 م



فصل
[في صحة نسخ العبادة قبل وقت الفعل]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٦٥] بعدما قرَّر مذهبَ الجمهور في صحَّة نسخ العبادة قبل وقت الفعل:

«وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَبي حَنِيفَةَ: «لاَ يَصِحُّ نَسْخُ العِبَادَةِ قَبْلَ وَقْتِ الفِعْلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا أُمِرَ بهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مِنْ ذَبْحِ ابْنِهِ، ثُمَّ نُسِخَ عَنْهُ قَبْلَ فِعْلِهِ...»».

[م] لا خلاف عند القائلين بالنسخ في جواز النسخ قبل الفعل بعد دخول وقته؛ لأنَّ شرط الأمر حاصل وهو التمكّن من الفعل، لكن الخلاف قبل دخول وقت الفعل، والتمكُّن من فعل ذلك الأمر، فمذهب الأكثرين إلى جواز نسخ العبادة قبل دخول وقت الفعل، وبهذا قال البزدوي والسرخسي من الحنفية، وخالف في ذلك أكثر الحنفية والمعتزلة والصيرفي(١) من الشافعية وابن بَرهان وأبو الحسن التميمي من الحنابلة، ومثاله أن يأمر الشارع بالحجِّ أو الصيام فيقول: حجّوا هذه السَّنَّة، أو صوموا، ثمَّ يقول قبل ابتداء الحجّ أو الصوم: لا تحجّوا، أو لا تصوموا.

وسبب الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى الأمر هل يستلزم الإرادة أَوْ لَا ؟ وهل حكمة التكليف هي امتثال إيقاع ما كلّف به أم أنَّها ابتلاء وامتحان المكلَّف ثانيًا ؟ فمن رأى أنَّ الأمر يستلزم الإرادة، فإذا أمر بشيء علمنا أنَّه مرادٌ، ورأى أنَّ حكمة التكليف هي الامتثال والإيقاع فقط قال لا يجوز نسخ الشيء قبل التمكُّن من الفعل لتخلُّف حكمة التكليف وهي الامتثال، ونتج حكم مغاير على من بنى أصله على خلاف الأول.

والصحيح مذهب القائلين إنَّ الإرادة نوعان(٢):

إرادة كونية قدرية: وهي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات، وهي لا تستلزم محبّة الله ورضاه، مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ[سورة الحج: ١٤].

وإرادة شرعية دينية: فهذه متضمِّنة لمحبَّة الله ورضاه، ولكنَّها قد تقع وقد لا تقع، مثل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ[النساء: ٢٧].

وعليه، فإنَّ أوامر الله سبحانه تستلزم الإرادة الشرعية لكنَّها لا تستلزم الكونية، فقد يأمر الله تعالى بأمر يريده شرعًا وهو يعلم سبحانه أنَّه لا يريد وقوعَه كونًا وقدرًا، فكانت الحكمة من ذلك ابتلاء الخلق وتمييز المطيع من غير المطيع، لذلك جاز نسخ الشيء قبل التمكُّن من فعله. وتكون حكمة المنسوخ بعد التمكُّن من الفعل هي: الامتثال وقد وقع، وتكون حكمة المنسوخ قبل التمكّن من فعله: الابتلاء والامتحان، وقد وقع قبل النسخ(٣).

[في حجّة القائلين بصحة نسخ العبادة قبل وقت الفعل]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٦٦] مستدلًّا لمذهب القائلين بصحَّة نسخ العبادة قبل وقت الفعل:

«وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا أُمِرَ بهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مِنْ ذَبْحِ ابْنِهِ(٤) ثُمَّ نُسِخَ عَنْهُ قَبْلَ فِعْلِهِ».

[م] استدلَّ المصنِّف بهذه الآية على وقوع نسخ العبادة قبل وقت الفعل، و«الوُقُوعُ دَلِيلُ الصِّحَّةِ وَالجَوَازِ»، وقد ورد الأمر بالذبح حقيقة حكاية عن إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى[الصافات: ١٠٢]، ثمَّ قال الله تعالى: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ[الصافات: ١٠٢]، والأمر صَدَرَ من الله سبحانه إلى إبراهيم عليه السلام، إذ القتل محرّم إلَّا ما أذن فيه سبحانه وتعالى، فلو لم يكن الذبح مأمورًا به حقيقة لما قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ[سورة الصافات: ١٠٦]، فهو بلاءٌ وُصِفَ بأنَّه عظيمٌ لما عُلِمَ أنّ نتيجةَ مُقدِّماته غيرُ مأمونةٍ من الخطر، فنسخ الله سبحانه هذا الحكم قبل التمكّن من الذبح بقوله تعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ[سورة الصافات: ١٠٧]، فإنّ الفداء هو البدل، والذبح هو المبدل عنه، فكان الذبح مأمورًا به حقيقة، ثمَّ إنَّ هذه الواقعة ـ من حيث الاستدلال السابق ـ يُؤيِّدُها عمومُ قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا[البقرة: ١٠٦]؛ لأنَّ ظاهر الآية جوازُ النسخِ في عموم الأحوالِ سواء بعد التمكُّن من الفعل أو قبله.

هذا، ومن الأدلَّة الحديثية على الوقوع: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم غزوةَ خيبر، فأمسى الناسُ قد أوقدوا النيران، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «عَلَامَ تُوقِدُونَ ؟!!» قَالُوا: «عَلَى لُحُومِ الحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ»، فَقَالَ: «أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا وَاكْسِرُوهَا»، فقال رجلٌ من القوم: «أَوْ نُهَرِيقُ مَا فِيهَا وَنَغْسِلُهَا ؟» فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَوْ ذَاكَ»(٥)، ووجهُ دلالةِ الحديث أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم نَسَخَ حُكْمَ كَسْرِ قُدورِ لحمِ الحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ إلى غَسلها قبل التمكُّن من الفعل، و«الوُقُوعُ دَلِيلُ الجَوَازِ»، ومن ذلك ـ أيضًا ـ ما رواه أبو داود عن حمزة الأسلمي أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم أَمَّرَهُ على سَرِيَّةٍ، قال: فخرجت فيها، وقال: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا فَأَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ»، فَوَلَّيْتُ، فَنَادَانِي، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا فَاقْتُلُوهُ، وَلَا تُحْرِقُوهُ، فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ»(٦)، فدلَّ الحديثُ على صِحَّةِ نسخِ حُكْمِ الإحراق بالنَّار إلى حكم القتل قبلَ التمكُّنِ من الفعل. فهذه شواهدُ معتبرةٌ على صِحَّةِ مذهبِ جمهورِ أهل العلم.

 



(١) هو أبو بكر الصيرفي، انظر ترجمته على هامش كتاب «الإشارة» (٢٦٥).

(٢) انظر تقرير مذهب أهل السُّنَّة للإرادة في «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٨/ ١٣١)، «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز (١١٦).

(٣) انظر تفصيل المسألة في المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٢٦٦).

(٤) اختلف السلف في المفدى من الذبح من ابني إبراهيم عليه السلام أهو إسماعيل أَمْ إسحاق ؟ والذي ذهب إليه أهل التحقيق كابن تيمية وابن القيم وابن كثير وغيرهم أنَّ الذبيح هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وقد بيّن ابن القيم بطلان القول بأنه إسحاق عليه الصلاة والسلام من عشرين وجهًا. [انظر: «تفسير الطبري» (١٢/ ٢٣/ ٨١ ـ ٨٦)، «زاد المسير» لابن الجوزي (٧/ ٧٢ ـ ٧٣)، «تفسير الفخر الرازي» (١٣/ ١٥٣ ـ ١٥٥)، «زاد المعاد» لابن القيم (١/ ٧١)، «تفسير ابن كثير» (٤/ ١٧ ـ ١٩)، «تفسير القرطبي» (١٥/ ٩٩ ـ ١٠١)].

(٥) أخرجه البخاري في «المغازي» (٤١٩٦)، والذبائح (٥٤٩٧)، ومسلم في «الجهاد والسير» (٤٧٦٩)، وابن ماجه في «الذبائح» (٣١٩٥)، والبيهقي في «الغصب» (١١٨٨٦)، من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.

(٦) أخرجه أبو داود في باب كراهية حرق العدو بالنار (٢٦٧٣)، وأحمد في «مسنده» (٣/ ٤٩٤)، من حديث حمزة الأسلمي رضي الله عنه، والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح سنن أبي داود» (٢/ ١٤٥)، وفي «السلسلة الصحيحة» (٤/ ٩٠).

الزوار