فصل [في رجوع الاستثناء الواقع بعد الجمل المتعاطفة بالواو] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 11 شوال 1445 هـ الموافق لـ 20 أبريل 2024 م



فصل
[في رجوع الاستثناء الواقع بعد الجمل المتعاطفة بالواو]

• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص ٢١٢]:

«الاسْتِثَنَاءُ المُتَّصِلُ بجُمَلٍ مِنَ الكَلاَمِ مَعْطُوفٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ يَجِبُ رُجُوعُهُ إِلَى جَمِيعِهَا عِنْدَ جَمَاعَةِ أَصْحَابنَا، وَقَالَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِيهِ بمَذْهَبِ الوَقْفِ، وَقَالَ المُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَبي حَنِيفَةَ: «يَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ إِلَيْهِ»».

[م] محلُّ النِّزاع في هذه المسألة واقعٌ فيما إذا لم تكن قرينة تدلُّ على إرادة الجميع أو إرادة إحدى الجمل، سواء كانت متقدِّمة أو متأخِّرة، من نفس اللفظ أو من خارجه، فإن وُجدت القرينة وجب المصيرُ إلى ما تدلّ عليه والعملُ بما تقتضيه، ومن أمثلة رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل اتفاقًا قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا[الفرقان: ٦٨ ٧٠]، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾ إلى قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[سورة المائدة: ٣٣-٣٤]، ومن أمثلة ما يمنع فيه مانع أو قرينة من إرادة الجميع والحكم فيه للمانع أو للقرينة الدالَّة على المراد قوله تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا[النساء: ٩٢]، فحقّ الله المتمثّل في تحرير الرقبة مانعٌ من عود الاستثناء إليه؛ لأنه لا يسقط بإسقاطهم للدية، وعليه فالاستثناء يعود إلى الجملة الأخيرة، وقد يعود إلى الجملة الأولى بقرينة مثل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ[البقرة: ٢٤٩]، ومعناه: «أنَّ من شرب منه فليس مني إلَّا من اغترف غُرفةً بيده فإنه مني»، ولا يكون المعنى صحيحًا إذا رجع إلى الجملة الأخيرة وهي: «ومن لم يطعمه فإنه مني إلَّا من اغترف غرفةً بيده».

ويخرجُ ـ أيضًا ـ من محلِّ النِّزاع الاستثناء الوارد بعد جمل منسوقة بأنواع العطف ﻛ «الفاء»، و«ثم» فإن الاستثناء يختصّ بالأخيرة لاقتضائهما الترتيب سواء كان على الفور أو على التراخي بخلاف «الواو» فيقضي الجمع والاشتراك، لذلك اتفق العلماء على أنَّ الاستثناء إذا ورد بعد الجمل المتعاطفة ﺑ «الواو» يرجع إلى الجملة الأخيرة ما لم ترد قرينة، وفي رجوعه إلى ما قبلها خلاف(١).

وفضلًا عمَّا ذَكر المصنِّف من خلافٍ في هذه المسألة من أنَّ جمهور المالكية والشافعية والحنابلة يذهبون إلى أنَّ الاستثناء إذا تعقب جملًا ﺑ «الواو» يرجع إلى جميعها، خلافًا لأصحاب أبي حنيفة فإنه يرجع عندهم إلى أقرب مذكور إليه، وأمَّا القاضي الباقلاني فقال بالوقف وتبعه الغزالي والشريف المرتضي من الشيعة، إلَّا أنَّ هذا الأخير توقَّف للاشتراك، وإضافة لما تقدَّم فقد ذهب آخرون إلى التفصيل، فمنهم من يرى: أنه إذا تبيَّن الإضراب عن الأولى فللآخرة وإلَّا فللجميع، وهو مذهب عبد الجبار(٢) وأبي الحسين من المعتزلة، ويرى آخرون: أنه إذا ظهر أنَّ «الواو» للابتداء رجع للجملة الأخيرة، وإن ظهر أنها عاطفة فالواجب الوقف وهو مذهب الآمدي، وقال غيرهم: إنَّ القيد الواقع بعد الجمل إذا لم يمنع مانع من عوده إلى جميعها لا من نفس اللفظ ولا من خارج عنه فهو عائد إلى جميعها، وإن منع مانع فله حكمه.

والظاهر أنَّ مذهب الجمهور في هذه المسألة أصحّ لاتفاق أهل اللغة أنّ تَكرار الاستثناء عقب كلّ جملة تلزمه الركاكة في الاستعمال، والركاكة قبح يتخلّص منه كلام العرب؛ ولأنَّ الاستثناء صالح لِأَنْ يعود إلى كلِّ واحدة من الجمل، وليست جملة أولى من أختها، فوجب اشتراكها في عود الاستثناء إليها جميعًا(٣).

ويتفرَّع عن هذه المسألة اختلافُهم في قَبول شهادة المحدود في القذف بعد التوبة من مقتضى آية القذف الواردة في نصِّ المصنِّف فهل تقبل ؟ مع ما نقل من اتفاقهم على أنَّ المحدود في القذف إن تاب لم يسقط عنه الحدّ(٤)، وزال عنه الفِسق، ولكنهم اختلفوا في قَبول شهادته، وما عليه الجمهور قَبولها(٥)، لرجوع الاستثناء إلى الجميع، والحنفية تخصّه بالأخيرة، ويبقى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا[النور: ٤] على عمومه(٦).

وممَّا يتفرَّع عنها أيضًا اختلافُهم في اشتراط الإذن في الإمامة في الصلاة في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَلَا يَؤُمَنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدُ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ»(٧)، ورجوعُ الاستثناء إلى الجملة الأخيرة متَّفق عليه، فلا يجوز له الجلوس على تكرمته إلَّا بإذنه، ومن رأى رجوع الاستثناء إلى الجميع قال: باشتراط الاستئذان في الإمامة بالصلاة، ومن رأى رجوعه إلى الجملة الأخيرة لم يشترط الإذن(٨).

 



(١) انظر: «مفتاح الوصول» للشريف التلمساني (٥٣٢)، والمصادر المثبتة على هامشه.

(٢) هو أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني، الأسد أبادي، قاض أصولي، كان شيخ المعتزلة في عصره، وانتحل مذهب الشافعي في الفروع، له تصانيف في الأصول والتفسير وغيرها، منها: «العمد» في أصول الفقه، و«المغني» في أصول الدين، و«متشابه القرآن»، و«الأمالي»، توفي سنة (٤١٥ﻫ).

انظر ترجمته في: «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (١١/ ١١٣)، «طبقات الشافعية» للسبكي (٥/ ٩٧)، «ميزان الاعتدال» للذهبي (٢/ ٥١١)، «مرآة الجنان» لليافعي (٣/ ٢٩)، «لسان الميزان» لابن حجر (٣/ ٣٨٦)، «طبقات المفسرين» للسيوطي (٥٩)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٣/ ٢٠٢)، «الرسالة المستطرفة» للكتاني (١٦٠).

(٣) انظر مذاهب العلماء في هذه المسألة وأدلتهم على هامش «الإشارة» (٢١٤).

(٤) قال البعلي في «القواعد والفوائد الأصولية» (٢٦٠): «ودعوى الإجماع لا تصحّ، فإن ابن الجوزي جزم بعوده إلى الجلد، وأنه قول أحمد، وجزم به صاحب المغني أيضًا في أول مسألة شهادة القاذف، لما بحث مع الحنفية المسألة، وأنهم قالوا: الاستثناء لا يعود إلى الجلد ومنعهم، وقال: بل يعود إليه أيضًا، قال البعلي: يؤيّد أنّ حدّ القاذف يسقط بالتوبة، لو قذف شخص شخصًا لا يجب عليه إعلامه والتحلّل منه، وهو أصحّ الروايتين عن الإمام أحمد ـ حتى إنه يحرم عليه إعلامه بذلك، ذكره القاضي أبو يعلى، والشيخ عبد القادر ـ يقبل هاهنا: لا ينبغي أن يعلمه».

(٥) انظر: «الأحكام» لابن العربي (٣/ ١٣٣٧)، «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ٤٦٢)، «المغني» لابن قدامة (٩/ ١٩٧)، «القوانين الفقهية» لابن جُزَي (٢٩٦)، «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (١٢/ ١٧٩).

(٦) انظر: «مفتاح الوصول» للتلمساني (٥٣٣).

(٧) أخرجه مسلم (٥/ ١٧٣)، وأحمد في «مسنده» (٥/ ٢٧٢)، وأبو داود (١/ ٣٩٠)، والنسائي (٢/ ٧٦)، والترمذي (١/ ٥٨)، وابن ماجه (١/ ٣١٣) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.

(٨) انظر: «تحفة الأحوذي» للمباركفوري (٢/ ٣٢)، و«حاشية السندي» (٢/ ٧٦)، «المهذب» للنملة (٤/ ١٦٩٨).

الزوار