باب بيان حكم المجمل | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



باب
بيان حكم المجمل

[في تعريف المجمل]

• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص ٢٢٠]:

«... وَجُمْلَتُهُ أَنَّ المُجْمَلَ مَا لاَ يُفْهَمُ المُرَادُ بهِ مِنْ لَفْظِهِ، وَيَفْتَقِرُ إِلَى البَيَانِ إِلَى غَيْرِهِ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ[الأنعام: ١٤١]، فَلاَ يُفْهَمُ المُرَادُ ﺑ: «الحَقِّ» منْ نَفْسِ اللَّفْظِ وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ بَيَانٍ يَكْشِفُ عَنْ جنْسِ الحَقِّ وَقَدْرِهِ، فَإِذَا وَرَدَ مِثْلُ هَذَا وَجَبَ اعْتِقَادُ وُجُوبهِ إِلَى أَنْ يَرِدَ بَيَانُهُ فَيَجِبُ امْتِثَالُهُ».

[م] تعريف المصنِّف للمجمَل بهذا المفهوم إنما هو تعريف له عند السلف وهو «الَّذِي لَا يَكْفِي وَحْدَهُ فِي العَمَلِ»، مثلُ قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا[التوبة: ١٠٣]، فإنَّ الصدقةَ المطهِّرةَ والمزكِّيةَ لهم التي أمروا بها تحتاج إلى بيان، ومثلُ هذا لا يعرف إلَّا ببيان الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم(١).

أمَّا في اصطلاح الأصوليِّين فالمجمل ـ كما تقدَّم ـ هو: «ما له دلالة على معنيين فأكثر لا مزيةَ لأحدهما على الآخر». وحكم المجمل التوقُّف فيه حتى يتبيَّن المراد منه، أي: أنه لا يجوز العمل بأحد احتمالاته حتى يأتي دليل منفصلٌ خارجي عنه يدلُّ على المراد منه؛ ذلك لأنَّ المعنى لم يتعيَّن المراد منه بنفسه لتردّده بين مَعنيين فأكثر فاحتاج إلى المبيَّن.

وقول المصنّف في آية زكاة الزروع بأنه لا يفهم المراد ﺑ: «الحق» من نفس اللفظ ولا بد له من بيانٍ يكشف عن جنس الحقّ وقدره، فلا يستقيم مع ما بيَّنه أهلُ التحقيق من أنَّ اللفظ قد يكون واضح الدلالة من وجه، مجملًا من وجه آخر، فإنَّ إيتاءَ الحقِّ واضح الدلالة، وهو الزكاة المفروضة إلَّا أنه مُجمَل في مقداره لاحتماله النِّصف أو أقلَّ أو أكثر كما بيَّنه صاحب «أضواء البيان»(٢).

[في نصوص اختلف في كونها مجملة]

• وفي الصفحة نفسها قال المصنِّف -رحمه الله-:

«... قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[البقرة: ٤٣، ٨٣، ١١٠]، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ[البقرة: ١٨٣]، ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ[آل عمران: ٩٧]، ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[البقرة: ٢٧٥]، فَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابنَا إِلَى أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ خُوَيْزَ مِنْدَادٍ: «كُلُّهَا عَامَّةٌ، فَيَجبُ حَمْلُهَا عَلَى عُمُومِهَا إِلاَّ مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ»، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي».

[م] فمذهبُ القاضي الباقلاني وأكثر الشافعية أنَّ الاسم ـ إن ورد ـ وله مُسمَّى شرعي ومُسمَّى لغوي، وأمكن أن يكون المراد مسمَّاه الشرعي ومسمَّاه اللغوي، وليس من قرينة ترجِّح الشرعيَّ فهو مجملٌ لتردُّده بينهما، كالصلاة لها مسمَّى شرعي، أمَّا اللغوي فهو الدعاء، وكذلك الصوم والزكاة والحجِّ والرِّبا، فإنَّ لها معنًى شرعيَّا وآخر لغويًّا، وهو: الإمساك، والنَّمَاء، أو الطهارة والقَصْد. وحملته طائفة من الحنفية والشافعية على المسمَّى اللغوي حتى يدلَّ دليلٌ على إرادة الشرعي، وفَصَّل الغزالي والآمدي في المسألة، فيرى الغزالي أنَّ ما ورد في الإثبات كقوله صلَّى الله عليه وسلَّم لعائشة رضي الله عنها: «إِنِّي إِذًا صَائِمٌ»(٣)، المتردد بين الإمساك اللغوي والصوم الشرعي، فهو للحكم الشرعي، وما ورد في النهي كقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ»(٤)، المتردِّد بين الصلاة الشرعية والدعاء اللغوي، فهو مجمل، واختار الآمدي ظهورَه في المسمَّى الشرعي في طرف الإثبات وظهوره في المسمَّى اللغوي في طرف الترك، ومذهبُ جمهور الأصوليِّين أنه لا إجمالَ فيما كان له مُسمَّى لغوي ومسمَّى شرعي، بل الواجب حمله على المعنى الشرعي، سواء في حالة الإثبات، أو في سياق النفي، ما لم يصرف عنه صارف إلى غيره؛ لأنه عُرف الشارع، وإنما يحمل لفظ الشارع على عرفه(٥)، كما سيأتي.

وفي تقديري أنَّ سبب الاختلاف في هذه المسألة يرجع إلى الاختلاف الحاصل في هذه الأسماء، هل هي منقولة من اللغة إلى الشرع لكونها محتاجة إلى بيان المعنى الجديد المنقولة إليه، أم أنها غير منقولة، وإنما ورد الشرع بشروط وأحكام مضافة إلى الوضع اللغوي؟(٦) والقول بالإجمال مبني على أنها غير منقولة كما سيأتي تفصيله في باب بيان الأسماء العرفية اللاحق.

ونوع الخلاف فيه معنويٌّ، فمن يرى أنه لا إجمال فيه قال بجواز العمل بما يقتضيه النصُّ من غير توقُّفٍ، أمَّا مَن رأى أنَّ فيه إجمالًا فإنه لا يجيز العمل به إلَّا إذا عيَّنت قرينةٌ أو دليلٌ أحدَ المحتملين.

 



(١) «الفقيه والمتفقه» للخطيب البغدادي (١/ ٧٥).

(٢) انظر: «أضواء البيان» للشنقيطي (١/ ٣٢).

(٣) أخرجه مسلم (٨/ ٣٣)، وأبو داود (٢/ ٨٢٣)، والترمذي (٣/ ١١١)، وابن ماجه (١/ ٥٤٣)، والنسائي (٤/ ١٩٣)، والدارقطني (٢/ ١٧٦) من حديث عائشة رضي الله عنهما.

(٤) أخرجه أحمد (٦/ ٤٢٠)، وأبو داود (١/ ١٢٢)، والنسائي (١/ ١٢١)، وابن ماجه (١/ ٢٠٣)، من حديث فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها، انظر: «البدر المنير» لابن الملقن (٣/ ١٢٥)، «التلخيص الحبير» لابن حجر (١/ ١٧٠)، «صحيح الجامع» للألباني (٢٣٦٣).

(٥) انظر تفصيل المسألة في «العدة» لأبي يعلى (١/ ١٤٣)، «المستصفى» للغزالي (١/ ٣٥٧)، «التمهيد» للكلوذاني (١/ ١١)، «روضة الناظر» لابن قدامة (٢/ ١٤)، «الإحكام» للآمدي (٢/ ١٧٦)، «منتهى السول» لابن الحاجب (١٤٠)، «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (١١٤)، «المسودة» لآل تيمية (١١٧)، «تخريج الفروع» (١٢٣)، «مفتاح الوصول» للتلمساني (٤٦٩)، «التمهيد» للإسنوي (٢٢٨)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (٣/ ٤٣٤)، «فواتح الرحموت» للأنصاري (٢/ ٤١)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (١٧٢).

(٦) انظر: «التبصرة» للشيرازي (١٩٥)، «شرح اللمع» للشيرازي (١/ ٤٦٤)، «المنخول» للغزالي (٧٣)، «الإحكام» للآمدي (٢/ ١٧٦)، «التمهيد» للإسنوي (٢٢٨).

الزوار