فصل [في نسخ السُّنَّة بالقرآن] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 11 شوال 1445 هـ الموافق لـ 20 أبريل 2024 م



فصل
[في نسخ السُّنَّة بالقرآن]

• قال المصنِّف في معرض الاستدلال على صحة مذهب الجمهور في جواز نسخ السُّنَّة بالقرآن في [ص ٢٧٠]:

«وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ القُرْآنِ لِصَلاَةِ الخَوْفِ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ بالسُّنَّةِ تَأْخِيرُهَا يَوْمَ الخَنْدَقِ إِلَى أَنْ يَأْمَنَ، وَنَسْخُهُ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ بقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة: ١٤٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ[الممتحنة: ١٠] بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم رَدَّ مَنْ جَاءَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ».

[م] ما عليه جمهور الحنفية والمالكية والحنابلة وبعض الشافعية جواز نسخ السُّنَّة بالقرآن، وهو أحد قولي الشافعي في أضعف الروايتين عنه، ومنع من ذلك في أصحّهما وهي الرواية المشهورة عنه على ما قرّره في «الرسالة»(١)، ونسب الجويني له التردّد(٢)، وقد تقدَّم تحقيق السبكي وابنه في هذه المسألة.

ومذهب الجمهور في جواز نسخ السُّنَّة بالقرآن مُطلقًا سواء كانت سُنَّةً متواترة أو آحادًا هو الأصحّ لعدم امتناعه عقلًا ولوقوعه شرعًا(٣)، إذ لا يمتنع عقلًا أن تنسخ السُّنَّة باعتبارها وحيًا بالقرآن الذي هو وحي، قال تعالى في شأنهما عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[سورة النجم: ٣-٤]، فيجوز عقلًا نَسْخُ حكمِ أحدِ الوحيين بالآخر.

أمَّا وقوعه شرعًا فقد استدلَّ له المصنِّف بوقائع كثيرة، و«الوُقُوعُ دَلِيلُ الجَوَازِ» فمن ذلك:

قوله -رحمه الله-: «مَا وَرَدَ مِنَ القُرْآنِ لِصَلَاةِ الخَوْفِ…»؛ فاستدلَّ المصنِّف على أنَّ تأخير الصلاة حالة الخوف الثابت بالسُّنَّة حيث إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَخَّرَ الصلاة يوم الخندق: الظهر والعصر والمغرب، حتى بعد المغرب يهوي من الليل فصلاها كما يصليها لوقتها(٤)، ثمَّ نسخ تأخيرها بالقرآن في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا[البقرة: ٢٣٩]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ[النساء: ١٠٢].

ومَثَّلَ المصنِّفُ ـ أيضًا ـ بالتوجّه إلى بيت المقدس الثابت في السُّنَّة، حيث إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا قدم المدينة صَلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، ثمَّ نسخ بالقرآن في قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة: ١٤٤].

أمَّا المثال الثالث الذي ساقه المصنِّف -رحمه الله- فهو ما عليه أكثر العلماء على أنَّ قوله تعالى: ﴿فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ[الممتحنة: ١٠] ناسخ لما كان عليه الصلاة والسلام عاهد عليه قريشًا، من أنَّه يردُّ إليهم من جاءه منهم مسلمًا(٥)، ويذهب آخرون إلى أنَّ الآية مخصِّصة للعامِّ تأخَّرت عنه إلى وقت الحاجة، وقت مجيء المهاجرات المؤمنات إلى المسلمين بالمدينة؛ لأنّ لفظ صلح الحديبية عام في الرجال والنساء، فالآية أخرجت النساء من المعاهدة، وأبقت الرجال من باب تخصيص العموم وتخصيص السُّنَّة بالقرآن(٦) .

ومن وقائع ذلك ـ أيضًا ـ تحريم مباشرة النساء في رمضان ليلًا، وهو ثابت بالسُّنَّة(٧) فنسخ بقوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ[النساء: ١٨٧]، ومن ذلك صوم عاشوراء(٨) الثابت بالسُّنَّة(٩) نسخ وجوبه بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ[البقرة: ١٨٣]، ومن ذلك الصلاة على المنافقين كان حكم جوازها ثابتًا بالسُّنَّة فقد صَلَّى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على عبد الله بن أبي بن سلول المنافق(١٠)، ثمَّ نسخ ذلك بقوله تعالى: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ[التوبة: ٨٤].

 



(١) «الرسالة» للشافعي (١١٠).

(٢) «البرهان» للجويني (٢/ ١٣٠٧).

(٣) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٢٧٠).

(٤) أخرجه النسائي (٢/ ١٧)، والدارمي في «سننه» (١/ ٢٩٦)، وأحمد في «مسنده» (٣/ ٢٥)، وابن خزيمة في «صحيحه» (٢/ ٩٩)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (١/ ٢٥٧)، وفي «صحيح النسائي» (١/ ٢١٧) رقم: (٦٦٠).

(٥) «تفسير القرطبي» (١٨/ ٦٣).

(٦) نسب الشيخ عطية محمّد سالم -رحمه الله- في التتمّة الأولى ﻟ «أضواء البيان» إلى كثير من المفسِّرين بأنّ الآية مخصّصة لما جاء في معاهدة صلح الحديبية. انظر: «أضواء البيان» للشنقيطي (٨/ ١٦٠).

(٧) «تفسير القرطبي» (٢/ ٣١٤).

(٨) عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر المحرم، واتفق العلماء على استحباب صيامه، ويسنّ الجمع بين التاسع والعاشر لحديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» [أخرجه مسلم (٨/ ١٣)]، غير أنّ العلماء يختلفون في وجوبه قبل أن يكتب رمضان، وقد حقّق الحافظ ابن حجر هذه المسألةَ ونظم متفرقها بقوله: «ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنَّه كان واجبًا لثبوت الأمر بصومه ثمّ تأكّد الأمر بذلك، ثمّ زيادة التأكيد بالنداء العامّ، ثمّ زيادة بأمر كلّ من أكل بالإمساك، ثمّ زيادته بأمر الأمّهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت في صحيح مسلم: «لَمَّا فرض رمضان ترك عاشوراء»، مع العلم بأنّه ما ترك استحبابه، بل هو باق، فدلّ أنَّ المتروك وجوبه». [«فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٢٤٧)].

(٩) انظر هذه المسألة في «المنتقى» للباجي (٢/ ٥٨)، «المقدمات الممهدات» لابن رشد (١/ ٢٤٢)، «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٧٣)، «الاعتبار» للحازمي (٣٤٠)، «المجموع» للنووي (٦/ ٣٨٢)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٢٤٥).

(١٠) «تفسير القرطبي» (٨/ ٢١٨).

الزوار