فصل [في مورد النسخ] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 11 شوال 1445 هـ الموافق لـ 20 أبريل 2024 م



فصل
[في مورد النسخ]

• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص ٢٥٩] بعدما أورد الخلاف في دخول النسخ في الأخبار:

«وَالصَحِيحُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ الخَبَرِ لاَ يَدْخُلُهُ النَّسْخُ؛ لأَنَّ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ نَسْخًا وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذِبًا لَكِنْ إِنْ ثَبَتَ بالخَبَرِ حُكْمٌ مِنَ اْلأَحْكَامِ جَازَ أَنْ يَدْخُلَهُ النَّسْخُ».

[م] لا خلاف بين العلماء في جواز نسخ الخبر الذي أريد به الإنشاء، أي الخبر الذي يكون بمعنى الأمر والنهي مثل قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ[البقرة: ٢٣٣]، وقوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ[البقرة: ٢٢٨]، وقوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ[سورة الواقعة: ٧٩]، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةَ»(١)، فإنَّ مثل هذه الأخبار وغيرها أريد بها الإنشاء فهي قابلة للنسخ ونسخ ألفاظها.

أمَّا مدلول الخبر إن كان ممَّا لا يمكن تغييره بأن لا يقع إلَّا على وجه واحدٍ باعتبار ما كان وما يكون: كأخبار الآخرة والجنَّة والنَّار، وصفات الله تعالى، وما كان عليه أمر الأنبياء والأمم وما يكون: كقيام الساعة وآياتها، فلا يجوز نسخه بحال قولًا واحدًا لا يختلفون فيه؛ لأنَّ القول بنسخه يفضي إلى الكذب وذلك مستحيل على الوحي.

أمَّا إذا كان مدلول الخبر ممَّا يصحُّ تغييره بأن يكون وقوعه على غير الوجه المخبر عنه، ماضيًا كان أو مستقبلًا، أو خبرًا عن حكم شرعي أو وعدًا أو وعيدًا فهو محلّ خلاف بين العلماء، وما عليه جمهور الفقهاء والأصوليِّين عدم دخول النسخ في الأخبار مُطلقًا، وذهب أبو عبيد الله وأبو الحسين البصريان والفخر الرازي إلى جوازه مُطلقًا، وهو اختيار تقي الدِّين بن تيمية وبعض الحنابلة، ومالت طائفة من العلماء إلى تفصيل المسألة مع اختلافهم في نوع التفصيل، واختار بعضهم تفصيلًا وجهه: أنَّ النسخ في الأخبار ممنوع مُطلقًا ولكن إن ثبت بالخبر حكم من الأحكام جاز نسخه وعليه بعض المالكية وهو ما صحَّحه الباجي(٢) على ما هو مبيَّن في نصه.

هذا، والنسخ إنَّما يدخل الأحكامَ الشرعية العملية التكليفية، فلا يتناول النسخُ الأحكامَ المتعلّقة بالاعتقادات وأصول الدِّين، لعدم قَبولها التبديل والتغيير، كالإيمان الخاصّ «إيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيرِه وشرِّه»، ولا يدخل الأحكامَ التي ثبتت على التأبيد، كالجهاد مثلًا فالنسخ ينافيه، ولا يدخل النسخُ الأحكامَ العامّة التي ثبتت مصالحُها ثبوتًا ظاهرًا، فلا يسع رفعها، كالقواعد الكلية المتمثِّلة في الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر، وبطلانِ العمل المخالف للشرع، ونفي الضرر والضِّرار، كما لا يمكن رفع الأحكام المتعلِّقة بالأخلاق والفضائل، كَبِرِّ الوالدين، والعدلِ، والوفاء بالعهد، لكون جنسها لا يقبل التغييرَ، وبالمقابل لها فلا يدخل النسخُ الأحكامَ المتعلِّقةَ بالأخلاق الذميمةِ والرذائل كالظُّلم والكذب والخيانة والكفرِ وعقوقِ الوالدين، لعدم قَبول جنسها للتغيير ـ أيضًا ـ فالأُولى مصلحتُها ظاهرة، والأخرى مفسدتها بيِّنة، وكذلك لا يدخل النسخُ الأحكامَ المؤقتَّةَ: كالصيام إلى الغروب؛ لأنّ التأقيت محدود أثره إلى انتهاء غاية، وكذلك الأحكام الواردة محكمة غير منسوخة بعد الزمن النبويِّ فلا يدخلها النسخُ؛ لأنَّ النسخَ لا يثبت إلَّا بوحيٍ(٣).

 



(١) أخرجه البخاري (٥/ ١٤٣)، وأبو داود (٣/ ٧٩٥)، والترمذي (٣/ ٥٥٥)، وابن ماجه (٢/ ٨١٦)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(٢) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٢٦٠).

(٣) «الفتح المأمول» للمؤلف (١٤٢).

الزوار