فصلٌ [في صحة العلة الواقفة] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 11 شوال 1445 هـ الموافق لـ 20 أبريل 2024 م



فصلٌ
[في صحة العلة الواقفة]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٣١٠]:

«العِلَّةُ الوَاقِفَةُ ـ عِنْدَنَا ـ صَحِيحَةٌ، نَحْوُ: عِلَّةِ مَنْعِ التَّفَاضُلِ فِي الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِمِ؛ لأَنَّهَا أُصُولُ الأَثْمَانِ وَقِيَمُ المُتْلَفَاتِ».

[م] المراد بالعِلَّة الواقفة تلك التي لم تتعدَّ الأصل إلى الفرع(١)، ويعبِّر عنها الأصوليُّون بالعِلَّة القاصرة، ومحلّ الخلاف في جواز التعليل بها إذا كانت مستنبطة، أمَّا الثابتة بنصٍّ أو إجماعٍ فقد أطبق العلماءُ على جواز التعليل بها إلَّا ما نقله القاضي عبد الوهاب عن قوم أنه لا يصحُّ التعليلُ بها، وتعقّبه صاحب الإبهاج بقوله: «ولم أر هذا القول في شيء ممَّا وقفت عليه من كتب الأصول سوى هذا»(٢).

ومثال العِلَّة الواقفة المنصوص عليها التي يجوز التعليل بها اتفاقًا: تعليل وجوب الكفَّارة بوقاع المكلَّف في نهار رمضان.

وأمَّا العِلَّة الواقفة المستنبطة فما عليه مالك والشافعي وأكثر أصحابهما، وإحدى الروايتين عن أحمد صِحَّة التعليل بها، وبه قال بعضُ الحنفية، ومال إلى هذا القول أبو إسحاق الشيرازي والغزالي والفخر الرازي والآمدي وغيرُهم، وخالف أبو حنيفة وأكثر أصحابه والحنابلة ورأوا عدم صِحَّة التعليل بها وهي الرواية الثانية عن أحمد(٣).

وقد مثَّل لها المصنِّف بعِلَّة منع التفاضل في الذهب والفضَّة بأنها أصول الأثمان وقيم المتلفات، وبهذا التعليل قالت المالكية والشافعية ورواية عن أحمد، وهو المعنى البارز الذي يعدُّ معيارًا ضابطًا يعرف به تقويم المبيعات فلا يخضع للارتفاع والانخفاض على عكس السلع، وبخلاف التعليل بالوزن الذي عليه الحنفية ورواية عن أحمد(٤)، فإنه وإن كانت عِلَّة متعدِّية إلَّا أنَّ التعليل بها طرد محض ليس فيه مناسبة، فإذن لا يوجد معنى أخطر من الثمنية في الذهب والفِضَّة إذ بها حياة الأموال، وحاجة الناس إليها ضرورية وعامَّة، ولأنها غير مقصودة لذاتها بل للتوصّل بها إلى السلع، وهذا المعنى معقول يختصّ بالنقود، فلا يتعدَّى سائر الموزونات(٥)، ويُمثِّلون للعلة القاصرة ـ أيضًا ـ بالسفر المبيح للفطر، والرمَل في الأشواط الثلاثة الأولى من الطواف لإظهار القوة والنشاط للمشركين.

[في الدليل على صحة العلة الواقفة]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٣١١]:

«وَقَالَ أَصْحَابُ أَبي حَنِيفَةَ: «لَيْسَتْ بصَحِيحَةٍ»، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ القِيَاسَ أَمَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ خَاصَّةً وَعَامَّةً كَالخَبَرِ».

[م] الحنفية نظروا إلى شروط صلاحية العِلَّة للقياس، ولاحظوا ضرورة أن تكون العِلَّة متعدِّيةً لاستخدامها في عملية القياس، ولما كانت العلة الواقفة لا تتعدَّى إلى الفرع فلا جدوى من التعليل بها، إذ ما لا فائدة فيه لا يرد به الشرع، لذلك يبطل التعليل بها، ومن جهة أخرى فالعِلة الواقفة لا تكشف عن الأحكام لقصورها، ومن شرط العِلَّة الشرعية أن تكون أمارة كاشفة عن الأحكام لذلك لا تصلح أن تكون علة لانتفاء شرطها.

وقد أجاب الجمهور عن دليل الأحناف: بأنَّ العلة الواقفة تفيد المكلَّف في معرفة بناء الحكم على وجه المصلحة وَفْقَ الحكمة، وهو تعليل باعث على الامتثال والطاعة، ولأنَّ التعدية وسيلة إلى إثبات الحكم فالواقفة وسيلة إلى نفيه، وكلاهما مقصودان، فإنَّ إثبات الحكم في محلِّ النفي محذور، كما أنَّ نفيه في محلّ الإثبات محذور، وهذه النتيجة من الأهمية بمكان؛ لأنَّ معرفة الاقتصار على محلِّ النصِّ وانتفائه به من أعظم الفوائد(٦)، فإن ثبتت الثمنية عِلة الذهب والفضَّة، فإنَّ عدم الثمنية مُشعر عن طريق مفهوم المخالفة بانتفاء تحريم الرِّبا في غيرهما، وقد استدلَّ الجمهور بفوائد أخرى يُترك ذِكرُها خشية التطويل اكتفاءً بما تقدَّم، وعليه تكون العِلة الواقفة كاشفة عن الأحكام من جهة كشفها منع استعمال القياس، فصحَّ أن تكون أمارة شرعية قاصرة على حكم خاصٍّ مثل المتعدِّية فهي أَمَارة شرعية عامَّة غير قاصرة على حكم نصِّ الأصل، فاتصاف العِلة بالتعدية إنما هو فرع عن صِحَّتها وصلاحيتها لإضافة الحكم إليها، ولا يكون فرع الشيء شرطًا لوجوده، ولا مقومًا له، فمثل العِلَّة الواقفة والمتعدِّية مثل الخبر في عمومه وخصوصه؛ ولأنَّ العِلة الواقفة المستنبطة كالعِلة الواقفة المنصوص عليها أو المجمع عليها ولا فرق، فإذا جاز التعليل بالمنصوص عليها والمجمع عليها جاز التعليل بالمستنبطة، وإذا نفينا الفرق بين العلة المتعدِّية المنصوص عليها أو المجمع عليها وبين العلة المتعدِّية المستنبطة فإنَّ القياس يقتضي نفيه في العِلة الواقفة المستنبطة أيضًا.

والخلاف بين أهل العلم لفظيٌّ لا ثمرةَ له ولا نتيجةَ تترتب عليه، فالجمهور لم يشترطوا التعدِّي لأنهم لاحظوا حقيقة العِلِّية باستخراج المناسبة وإبداء الحكمة لا من أجل القياس، بينما الأحناف لاحظوا عملية القياس وشروط صلاحية العِلَّة للقياس ومنها التعدِّي، لذلك لم يصحِّحوا العِلَّة الواقفةَ؛ لأنَّ قصور العِلَّة يمنع القياس لعدم وجود العِلة الواقفة في الفرع الذي يراد إثباته، فلا يتحقَّق إلَّا بالعِلَّة المتعدِّية، وهذا لا يخالف فيه من أجاز التعليل بالواقفة، كما أنَّ الأحناف من جهتهم لم يمنعوا التعليل باستخراج المناسبة وإبداء الحكمة من العِلَّة الواقفة.

 



(١) والعلة الواقفة إذا ثبتت في معنى من المعاني كانت مقصورةً عليه وغير موجودة في سواه، فوصفت لذلك بأنها موقوفة عليه، ممنوعة من أن تتعدَّى إلى سواه «الحدود» للباجي (٧٤).

(٢) «الإبهاج» للسبكي وابنه (٣/ ١٤٤).

(٣) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٣١١).

(٤) انظر: «تحفة الفقهاء» للسمرقندي (٢/ ٣١)، «البدائع» للكاساني (٥/ ١٨٣)، «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ١٣٠)، «المهذب» للشيرازي (١/ ٢٧٧)، «المغني» لابن قدامة (٤/ ٥)، «مختارات من نصوص حديثية» للمؤلف (٢٢١).

(٥) «إعلام الموقعين» لابن القيم (٢/ ١٥٦).

(٦) «إعلام الموقعين» لابن القيم (٢/ ١٥٦).

الزوار